بهذا العجز عن استيعاب الحدث يختم الشيخ عبدالله بن سليمان المزروع الصوت الأول من قصيدته العصماء «دموع القمر»، التي «نزفها» كلمات مصبوغة بحمرة الدم، و«عزفها» لحنا يقطع نياط القلب، على ما جرى في تفجيرات مجمع «المحيا» السكني في الرياض مؤخراً، وقد حالفه التوفيق كثيرا في الكشف عن حالة الصمت البليغ، الذي يلجم اللسان الحكيم الفصيح، فلا يقوى على الكلام الدال على مقتضى الحدث والحال، وهي حالة الشلل التعبيري حين يُبغت المرء ناهيك عن الشاعر بما ليس في الحسبان.
وفي صورة شاعرية رقيقة يصف لنا المشهد الأول الحالم.. الصورة قبيل وقوع الحادث بدقائق.
الكون في حضن السكينة حالم
والبدر في وجه السماء تصدّرا
ونسائمُ الأسحارِ تلهو حُرّة
في عالم بشذا الأمان تعطّرا
وحبذا لو كان الشاعر قد أضاف إلى الصورة الجميلة قدسية الزمن الجليل، وروحانية شهر رمضان الفضيل حيث وقع الحادث الرهيب.
ولكنه فجأة.. ينقلنا من العقدة.. انقلابا تاما في الحال
فإذا الدوِيُّ يصُمُّ آذان الرُّبى
وإذا الهدوءُ المطمئنُّ تكدَّرا
وإذا اللهيبُ يشقُّ أستارَ الدجى
وكأنما قلبُ المساءِ تفجَّرا
الأرض من بعد النضارة شُوِّهَتْ
والليلُ من بعد التبسُّمِ كَشَّرا
والبدرُ بادرَ للخسوف كأنَّه
طفلٌ رأى ما هاله فتستَّرا
ويدير الشاعر «كاميرته» في مسرح الحادث لتنقل لنا مشاهد تقشعر لها الأبدان وتفجر الغضب المحموم على من فجروا الحياة الآمنة، وبعثوا إلى سكان المجمع بالموت رسائل غادرة:
وأبٌ يفتِّشُ في اللَّظى عن أسرة
نُسِفَتْ ويسألُ نفسه: ماذا جرى؟!
أمسى يناديهم ولكنْ لم يجدْ
صوتاً يلبِّي صوتَه المتكسِّرا
وتنتقل الكاميرا إلى موقع آخر حزين.. ويواصل الشاعر عرض المشاهد..
مع صورة درامية أخرى حزينة، حيث لم ترحم أيادي الشيطان حتى تلك العجوز:
بين الحطامِ أرى عجوزاً حُطِّمَتْ
وأرى الحجابَ برأسها متصبِّرا
برماد مصْحفِها تخَضَّبَ وجهُها
أرأيتَ في الدنيا خِضاباً أنورا؟
والحجاب والمصحف والخضاب المنير أدوات يوظفها الشاعر أدلة إدانة قاطعة للجرم الشنيع في حق هذه الجدة المؤمنة، ثم يسترسل ناكئاً جراح الأسى وهو يصف حال الشهيدة:
بفتات سُجَّادِ الصلاة تكفنتْ
والليلُ يجثو حولها متحسِّرا
وكأنها إذْ كبَّرتْ لصلاتها
لم تدرِ أنَّ تمامَها ما قُدِّرا
صورة مروعة لعجوز لم يمهلها المجرمون كي تناجي ربها في عمرها الزاهد إلا في الطاعة والعبادة..
لم يرحموا السنين المتراكمة على كاهلها، ولا العجز الضارب في أطنابها ولا حالة الصفاء الروحي التي كانت عليها وهم يطعنونها بالخنجر المسموم.
وحتى الأطفال لم يسلموا من الغدر.. اسمعوا هذه الترنيمة الثكلى واذكروا هذا اللحن الحزين:
يا أيها الطفلُ الطريحُ هناك هل
ضيَّعت أمَّك حينَ نمتَ على الثرى؟
وقميصُك المُحْمَرُّ هل بدَّلتَه؟
قد كنتُ أذكره قميصاً أخضرا
ما لي أرى عينيكَ قد سكنتْ فهل
جفناهما بعدَ الحِراكِ تحجّرا؟
ةلكنّ ميعادَ الجوابِ تأخّرا
عندئذ تتفجر شرايين الغضب في قلب الشاعر.. ويطلقها قذائف في وجه أولئك الملطخة ضمائرهم بدماء الأبرياء.. يتبرأ منهم.. يلعنهم..
تباً لنفس لم تزل مشتاقة
لترى دماءَ الطُّهْرِ تجري أنهرا
تبّاً لعقلٍ إنْ وجدنا من غدا
من غيرِ عقلٍ بالرجاحة أجدرا
تبّاً لدينٍ يأمرُ الإنسانَ أن
يسعى ليغرزَ في رضيعٍ خنجرا
يا أيها الإنسانُ ليتك لم تكنْ
إن كنت لم تُخلقْ سوى لتدمّرا
ويتصاعد الغضب العارم مما جرى لأولئك الأبرياء، ويتوعد الشاعر بالشرع ويحكم التاريخ في كل دوراته على أولئك الخارجين:
في كلِّ دمعةِ طفلةٍ يتَّمتَها
بحرٌ سيغرقُ قلبكَ المتجبِّرا
وبكلِّ حرقة بائس أحزنته
نارٌ ستحرقُ وجهَكَ المتكبرا
فإذا وقعتَ بقبضة الأيامِ لن
يُنسى الذي فارقته أو يُغفرا
قولوا لمن قتل البراءة غيلة:
إنَّ العدالةَ أقسمتْ أنْ تثأرا!
ولا أملك في النهاية إلا أن أقول مع الجموع لشاعر المشاعر:
صح لسانك أيها الشيخ الجليل!