لا جدال في حقيقة تأثير التقنية في الجوانب المادية من حياة الإنسان.. فالدينمو على سبيل المثال سبب الوهن في عضلات الإنسان وذلك بمجرد أن حل بديلاً للدلو الذي أفاد «زعبه» وشده وجذبه في السابق في قتل وشد عضلات هذا الإنسان. ومثل ذلك السيارة التي أغنته عن التنقل على قدميه ودفعت به إلى الاعتمادية على التنقل على متنها محمولا، الأمر الذي أدى إلى الإضرار بصحته بتراكم شحومه وازدياد معدلات كسله وخموله فاختلال مستويات كوليستروله.. الخ.
والأمر ليس هنا حكرا على الدينمو أو السيارة من حيث إنه ينطبق على معظم ما تم اختراعه حديثاً. فمخترعات الاتصالات الحديثة كالهاتف والجوال والإنترنت حدت من معدلات حركة الإنسان أيضاً وذلك بمجرد أن أضحت الوسيلة الوحيدة البديل لمشاوير زياراته وتزاوراته تواصلا مع صحبه وذويه..
إذن فتأثير التقنية في أمور الإنسان المادية أوضح من أن توضح غير أن وضوح هذا التأثير للتقنية مادياً يقابله غموض تأثيرها في الجوانب الغريزية من الإنسان. فلا يزال العلم الحديث يبحث في ثنايا ما محوره مدى تأثير التقنية في الجوانب المعنوية/ الحسية لدى بني البشر حيث تسود الأوساط العلمية لحظتنا هذه جدلية محورها هل - وكيف - أثر التقدم التقني - كما يتمثل في ثورة الاتصالات - في الملكات الغريزية الأصلية لدى الإنسان؟. بالطبع يدخل ضمن هذه الملكات المهارات الطبيعية لدى بني البشر كالقدرة على الحساب والفراسة والحدس ومن ضمنها أيضاً ما يعرف ب«التخاطر Telepathy» ألا وهو قدرة الإنسان «على الأقل في السابق» على التخاطب أو الاتصال العقلي مع البعيد من بني جنسه بدون أي وساطة تقنية من هاتف أو جوال..؟
ومما يبدو فالبحث العلمي في هذا المجال يؤكد حقيقة أن التقنية قد أثرت على وجه السلب في الملكات الفطرية والأصيلة لدى إنسان عصرنا هذا، حيث إن تجاهل هذا الإنسان لمهاراته الغريزية الطبيعية من خلال اعتماده المفرط على الوسائل التقنية دفع بهذه المهارات إلى خنادق التلاشي والاضمحلال.
السؤال رغم ذلك: هل هي يا ترى التقنية بمفردها؟! أما الإجابة فلا: إنها ليست التقنية منفردة، إنها بالأحرى التقنية بوصفها أحد الأضلاع الرئيسة «للمدنية» بمساوئها المختلفة. أنها المدنية التي غالبا ما يشار إليها بوصفها الحوض الذي تنهل منه آلام الإنسان الحديث، إنها أيضاً المدنية ذاتها المتهمة بكونها السبب الرئيس في انطمار سليقتنا اللغوية الأصيلة «كما كانت عليه في البادية»، مما قاد كما هو معلوم إلى ظاهرة اعوجاج لساننا العربي المبين.. إذن ماذا عن بقية «غرائز» هذا الإنسان في ضوء القادم بسرعة البرق من جنون المخترعات كالتقنية الحيوية «بايوتكنولوجي».. وعلوم التفكير «كوجيتولوجي».. وأدهى من كل ذلك وأمر.. تقنية الجزيئات بالغة الدقة «النانوتكنولوجي»؟!.
|