إن الذئابَ رابضةٌ على تلالنا وجراءها الفتيةَ تباغتُ أطفالَنا على غفلةٍ منَّا! فليس ثمةَ بحث عن مبررٍ لغريزةِ الذئاب.. ليس إلا الفتكَ بها! وما تلك بكافيةٍ ما لم تجزُّ مراتع الإرهاب العقلية كما المادية، فالعنف يبدأ من العقل أولاً ثم يتبعه السلوك.. عدا عن ذلك ستظل المخالب والأنياب نهشاً في الأبرياء! حسناً، إن الجميع يندد بالإرهاب وجرائمه البشعة، ولكن ظهرت، للأسف، مستويات من الإدانة غير واضحة وغير قطعية.. إنها إدانات مشروطة!! ثمة إدانة تبرر ضمناً الظروف التي حدت بالإرهابيين لاقتراف شناعاتهم! هناك إدانة مستدركة بالعتب على الضحية أو دولتها!! وهناك إدانة انتقائية تدين قتل المسلمين وتصمت عن قتل غيرهم! وإدانة سطحية تندد بأعمال الإرهاب ولكنها تبارك الفكر الذي ينطلق منه! وأخيراً ظهرت إدانات تذيَّل بوساطة للحوار بين الدولة والمجرمين!!
بطبيعة الحال أن مشاعر العداء للمدنية والتطور التي تشبع بها الإرهابيون، لم تأت من فراغ.. فلها مناخاتها وبيئاتها التي تشجع على ظهورها من ظروف سياسية وتنشئة اجتماعية وتربوية وتعليمية واقتصادية.. الخ؛ إلا أن ذلك لا يمكن أن نعده مبرراً أو مسوغاً لمن اقترف تلك الجرائم الإرهابية ومن ورائهم منظّرون يدَّعون البراءة من أعمال الإرهاب وربما يدنونها على استحياء أو على مضض؛ ولا يمكن أن نعدَّه عاقبة تتحملها الجهة التي ظهرت بها هذه الظروف. فالقاتل عندما يبرر فعلته بأن المقتول ظلمه أو قهره، لا يمكننا قبول هذا التبرير، ولا يمكن لوم المجني عليه فيما تعرض له. قد يُنتقد المجني عليه «الدولة والمجتمع» لأسلوبه وأعماله و لكن ذلك يتم في سياق آخر مختلف تماماً غير سياق قضية القتل والإرهاب. وفي تقديري أنه ينبغي عدم استخدام كلمة «مبررات» ظرفية لعمليات الإرهاب بل كلمة «دوافع»، فكل جريمة خلفها دافع ولكن ليس كل جريمة مبررة. قد يكون اللص مظلوماً لأن الفقر اضطره للسرقة ولكنه ليس بريئاً من صنيعه وعليه تحمل العواقب، وإلا أصبحت فتنة عارمة يتلظى بنارها المجتمع واستقراره.. ناهيك أن اللص قد يستمرأ هذا الصنيع ويحترفه دون عوز أو حاجة.
وعوداً إلى مجال إدانة الإرهاب، أقول إنه مما يؤسف له أن كثيراً من النخب والمثقفين العرب والفعاليات والتيارات السياسية والفكرية تتردد في إصدار إدانة قطعية واضحة لكارثة 11 سبتمبر، وهي جريمة نكراء لا يمكن تبريرها وفقاً لأي دين أو منطق أو مبدأ أو عرف. وبدلاً من أن نقدم اعتذاراً عما فعله أبناؤنا، قام البعض من المثقفين بالشماتة أو بتوجيه اللوم إلى أمريكا نفسها خالطاً أموراً سياسية بطريقة عاطفية. فلأن أمريكا تدعم إسرائيل كانت تلك عاقبتها!! وهل العقاب يكون بقتل المدنيين الأبرياء؟ وكيف أصبحت المباني السكنية والمراكز التجارية ساحة للحرب؟ وهل الردُّ على جرائم إسرائيل يتم بجرائم ضد أبرياء من دولة أخرى داعمة؟ ومنذ متى أصبح لتنظيم القاعدة وأشباهها اهتمام بقضية فلسطين قبل 11 سبتمبر؟ أليس هناك العديد من الطرق الحضارية السلمية لنعبر لأمريكا عن غضبنا من دعمها لإسرائيل؟
في تقديري أن العقلية الإقصائية بمنهجها الفكري الجامد، ومشاعر العداء والحقد التي يكنها الإرهابيون ضد التطور والمدنية بكل إيجابياتها وسلبياتها، وبحثهم التائه عن هوية ضائعة بين السماء والأرض. بين الماضي والحاضر.. وحنينهم الجنوني لقديم لن يرجع وانتماؤهم لأنماطه المعيشية والسلوكية، هو في نظري محركهم وإن لبست لبوس الدين. وهدفهم الحرب على المدنية وعلى المجتمع الحديث وإيقاف عجلة التطور والرجوع بالعالم إلى قرون سالفة. ولأن هذا العالم الذي تسوده الأنماط الاجتماعية الحديثة والمتسارعة التطور يقف على قمة هرمه تكنولوجياً واقتصادياً أمريكا فضربها سيكون زلزلة للمجتمع الحديث في تصورهم.. بل هم يتوهمون حسب بعض تصريحات بامكانية إسقاط أمريكا وإقامة دولتهم على جماجم البشر!! لا نتوهم.. لا علاقة بدعم أمريكا لإسرائيل، إذ عندما لم يتمكن الإرهابيون من القيام بجرائمهم في أمريكا نكسوا على أعقابهم وأقاموا القتل والتفجير في أوطانهم! وعندما لم يجدوا غير مسلمين ليقتلوهم لم يتوانوا عن الفتك بالأبرياء من العرب والمسلمين، بل لم يتورعوا عن قتل الأطفال والنساء في منازلهم وهم نيام!!
أما أولئك الذين يدينون الإرهاب وقتل المسلمين، ويصمتون عن قتل غير المسلمين أو يدينون برقة ولا يستفظعون قتل غير المسلمين فهم في تقديري ينهلون من نفس المنهل الفكري الذي ينهل منه الإرهابيون، ولكنهم يختلفون معهم في التكتيك، وأتمنى أن أكون قد جانبت الصواب في رأيي هذا. فللأسف هناك من يستنكر قتل غير المسلم مذيلاً شروطاً لهذا الاستنكار، وكأنه يريد القول إنه لا مانع من قتل غير المسلم ما لم يكن معاهداً للبلد المسلم وحائزاً على أمانها، أو صياغات من هذا القبيل توحي بأنه لا يعنيهم قتل غير مسلم إن لم يؤيدوه ضمناً!!
بقي أخيراً من ظهر بإدانة للإرهاب من نوع خاص وغريب، وكأن الإرهابيين مجتهدون أبرياء! إدانة ملغومة بكلمة حق لا يعرف ما يراد منها.. إنها «الحوار»!! كلمة حضارية رقيقة جذَّابة؛ ولكن الحوار مع من، وبين من؟؟ بين الدولة والقتلة!! بين النظام والفوضى!! بين الأمن والإجرام!! هناك توبة يعلنها المجرم هذا أمر محبب لا تثريب فيه، ولكنه يقدم للقضاء وليس للحوار أو المصالحة وكأنها بين خصوم تعاركوا في حروب مبررة.. ربما يخفف الحكم على المجرم إذا سلَّم نفسه لا مراء في ذلك، لكن لا يلتفت إلى مطالبه ولا إلى تبرير مسوغات جرائمه.. فالحوار مكافأة للمجرم أو هدنة يلتقط بها الإرهابيون أنفاسهم ليتكتك المنظرون لهم وسائل جديدة! وهل يمكن الحوار مع أعداء الحوار وقتلة الأطفال؟
قصارى القول، إن إدانة واستنكار أعمال الإرهاب والفكر الذي يغذيها ينبغي أن تكون واضحة قطعية لا مراوغة فيها ولا تبرير ولا إدخال لمواضيع أخرى في غير سياق الإدانة قد يفهم منها تخفيف الإدانة أو لوم النظام الذي تعرض مواطنوه للإرهاب. وينبغي أن يتضمن ذلك استنكاراً شاملاً لما يتعرض له المسلمون وغير المسلمين، وفي كل المناطق في بلداننا وفي غير بلداننا التي ليست تحت ظروف الحرب أو الاحتلال، وحتى في ظروف الحرب والاحتلال هناك أهداف غير مشروعة يدان من يتعرض لها بتهم جرائم الحرب.
|