كانت نهاية المقالة السابقة إشارة إلى سعادتي الغامرة بوصولي إلى مسقط رأسي ومرتع صباي.. عنيزة الفيحاء.. بعد رحلة طويلة بدأت بركوبي القطار من فاس إلى الدار البيضاء، ومنها امتطائي متن الطائرة إلى باريس، فالقاهرة، فالرياض، وانتهت بحملي كومة نوم على المرتبة الخلفية من سيارة إبراهيم ابن أخي محمد رحمه الله وكانت تلك الرحلة نهاية سفري لحضور المؤتمر الذي عقد في فاس وسعدت بالمشاركة فيه، وأفدت من استماعي إلى بحوثه عن عالم اللغة العربية الفذ وواضع علم العروض المشهور الخليل بن أحمد الفراهيدي.
وبعد إقامة سعيدة مفيدة لم تدم أكثر من يومين في فيحاء القصيم قدمت إلى عاصمة الوطن لأنجز ما أمكن انجازه من أعمال كانت تنتظرني، ولابدأ الاستعداد لرحلة جديدة أسعد بالقيام بها، مرة أخرى إلى فيحاء الشام، وذلك لحضور المؤتمر الثاني الذي أقامه مجمع اللغة العربية فيها تحت عنوان: «اللغة العربية في مواجهة المخاطر» وكان سفري إلى هناك يوم افتتاح المؤتمر الرابع والعشرين من شعبان. وإذا كنت أشعر بالسعادة كلما زرت قلب العروبة النابض فإن ذهابي إلى دمشق، هذه المرة اكتسب ميزة خاصة، ذلك أنها المرة الأولى التي أسعد فيها بمشاركة علماء لغة أجلاء في مؤتمر من مؤتمرات المجمع الذي هو أول مجمع للغة العربية في الوطن العربي كله. وكان مما أضاف إلى سعادتي بهاء وعمقاً مشاركة أستاذي الكريم الدكتور أحمد الضبيب، وزميلي الفاضل الدكتور عوض القوزي في ذلك المؤتمر.
كان افتتاح المؤتمر في قاعة مكتبة الأسد صباح اليوم المشار إليه، وقد فاتتني فرصة حضوره. وفي مساء ذلك اليوم توجهت من مطار دمشق مباشرة إلى تلك المكتبة لحضور الحفل التذكاري الذي أقامه المجمع بمناسبة انقضاء خمسين عاماً على وفاة مؤسسه الأستاذ العالم الجليل محمد كرد علي، رحمه الله ، وجزاه على ما قدم لأمته ولغتها خير الجزاء. وكما كان متوقعاً تحدث في هذا الحفل من هم أهل للتحدث، علماً ومكانة، وهم الدكتور شوقي ضيف رئيس مجمع اللغة العربية بالقاهرة ورئيس اتحاد المجامع اللغوية العربية «وقد القيت كلمته نيابة عنه»، والدكتور شاكر الفحام رئيس مجمع اللغة العربية في دمشق، والدكتور عبد الكريم خليفة رئيس مجمع اللغة العربية في الأردن، والدكتور عبد الرحمن الحاج صالح رئيس مجمع اللغة العربية في الجزائر. وعلى هامش ذلك الحفل عرضت مؤلفات المحتفل بذكراه.. وما أكثرها وأجودها!
وقد تناول مؤتمر «اللغة العربية في مواجهات الأخطار» ثلاثة محاور:
الأول: المخاطر من الداخل والخارج ووسائل مجابهتها.
الثاني: دور مجامع اللغة العربية في حماية العربية.
الثالث: اللغة العربية وآفاق المستقبل.
بدأ إلقاء البحوث في صباح يوم الثلاثاء الخامس والعشرين من شعبان وذلك في مقر المجمع، وكان حسن حظ لي، كما كان شرفاً، أن كان دوري في الحديث في الجلسة الأولى التي رأسها الأستاذ الدكتور شاكر الفحام نفسه، وتحدَّث فيها الأستاذ الفاضل الدكتور ناصد الدين الأسد عن «العولمة وهيمنتها على الثقافة واللغة» والأستاذ العالم الدكتور عبد الكريم الأثير عن «العربية في مواجهة الأخطار الداخلية» أما من نال حسن الحظ والشرف.. كاتب هذه السطور، فكان حديثه عن «اللغة العربية في مهدها: الواقع والمأمول».
وقبل التحدث عن الموضوع عبَّرت عن شكري الجزيل للقائمين على المجمع على دعوتهم الكريمة التي أتاحت لي فرصة الوقوف المهيب أمام صفوة من رواد العلم وأساطير اللغة، ثم قلت: بما أني أرجو رحمة ربي بمعرفتي قدر نفسي لادراكي ان بضاعتي في ميدان اللغة العربية مزجاة فإني قصرت كلامي على وضع هذه اللغة في وطني: المملكة العربية السعودية.. وحدها.
بدأت الحديث في الموضوع بالقول:
إن جهود مجمع اللغة العربية في دمشق لتأدية الرسالة التي نذر أعضاؤه الكرام أنفسهم لها منذ إنشائه جهود موفقة يدركها ويقدرها حق التقدير كل مهتم بأمور أمته العربية، هوية وحضارة، ماضياً وحاضراً ومستقبلاً، وعقده هذا المؤتمر حلقة من سلسلة تلك الجهود المدركة المقدَّرة، وإسهام مشكور يضاف إلى اسهامات مقدرة قامت بها جهات ومؤسسات عربية أخرى تحس بالمسؤوليات الكبيرة الملقاة على كواهل المهتمين باللغة العربية.. لغة أمتهم، انتماء وحضارة، ولغة دين أكثريتهم، عقيدة وشريعة.
وبعد الاشارة إلى أن من المسلَّم به لدى الباحثين في أمور المجتمعات والحضارات أن اللغة من أهم دعائم هوية الأمة، وأن الأمم المتقدمة تحرص على المحافظة على كيان لغاتها والتمسك باستعمالها وحدها، كتابة وتحدثاً، وتعمل على نشرها بين أمم ومجتمعات أخرى، قلت: إذا كان اهتمام أمم راقية بلغاتها الحديثة النشأة والتطور نسبياً واضحاً كل الوضوح فكيف لا يكون الاهتمام اضعافاً مضاعفة باللغة العربية التي لم يتكدر صفوها منذ خمسة عشر قرناً، إذ ما زال المرء يقرأ ما كتب بها في القرن الأول الهجري، شعراً ونثراً، فيفهمه حق الفهم، والتي استوعبت حضارة ذات مكانة عظيمة في مسيرة تاريخ الانسانية فكراً وثقافة، بل ان عظمتها لم تقتصر على هذين الأمرين مع أهميتهما وجلالهما - وإنما امتدت إلى كونها لغة مصدري دين المسلمين، عرباً وغير عرب، ثم أشرت إلى أن ما سيتناوله الحديث مسألتين:
الأولى: انتشار العامية، وبخاصة في مجال الشعر، في وسائل الإعلام.
الثانية: جعل اللغة الأجنبية، ولا سيما الانجليزية، وسيلة للحصول على وظيفة أو استبدالها بالعربية في مخاطبة العمال غير العرب وفي التعامل التجاري.
وأشرت، أيضاً إلى أن ما سأقوله ليس دراسة علمية قائمة على ما تحتمه قواعد البحث المتعارف عليها بين الباحثين، بل هو في الحقيقة، نتيجة لمشاهدتي واقعاً واضح المعالم والرؤى.
وكان مما قلته عن المسألة الأولى: باستثناء الشعر فإن العامية لم تنتشر في الصحافة الوطنية في المملكة، وهذا وضع لا تختلف فيه عن غيرها من أقطار الوطن العربي. وهي لم تنتشر في الاذاعة، مرئية ومسموعة، مع استثناء التمثيليات المحلية وغير المحلية، وذلك بخلاف بعض الاذاعات الموجودة في تلك الأقطار التي تكون الأحاديث فيها، أحياناً بالعامية وإن كانت أحاديث علمية أو أخباراً وتعليقات سياسية.
أما بالنسبة للشعر فالوضع مختلف كل الاختلاف، لكن ما هو هذا الشعر المتحدث عنه؟
إنه لون من الشعر العربي فصيح المفردات بعمومه. على أن من ملامحه أنه لا يلتزم بقواعد اللغة العربية الفصحى. بل يلجأ - في معظم الأحيان، إلى تسكين أواخر الكلمات، ولا يستعمل ضمائر المثنى، وغالباً ما استعمل كلمة «اللي» في التعبير عن الاسم الموصول، مفرداً ومثنى وجمعاً، مذكراً ومؤنثاً.
ومن ملامحه، أيضاً أنه لا يقتصر على بحور الشعر الخليلية المتعارف عليها، بل يضيف إليها بحوراً أخرى كثيرة. واضافة إلى تمسكه بالقافية أكثر من تمسك المقول بالفصحى فإن كثيراً منه لم يقتصر على التزام قافية واحدة في أواخر كل أبيات القصيدة، وإنما التزم أيضاً قافية في نهاية الشطر الأول من كل بيت فيها.
|