* القريات - سلامة الحريّص
ندرك أن الواقع في الغالب لا يأتي بما تذهب إليه أحلامنا، ونعلم جيداً أن الحلم البسيط حق مشروع للجميع حتى وإن قارعه واقع سليط.. هم كذلك أبناء القريات: بين أحلام المستقبل وواقع بالمرارة يصافحهم.. يعيشون بين أمل اللحاق بركب المستقبل وبين صدمة الواقع الفعلي الذي يواجهونه.. فلا كليات أو معاهد تشفع لهذا الحلم في روح كل ابن من أبناء هذا الجزء الغالي من الوطن أن يبقى ليعيش فترة أطول أو ليصل بدرجاته حدود الواقع المأمول فأبناء القريات بين خيارين أحلاهما مر.. فإما الغربة ومحاولة قهر الظروف بأي حال من الأحوال وإما تسليم الأمر لله والبقاء تحت مسمى «عاطل» على بند «البطالة»!!.
الظروف لا تساعدنا
يقول ساعد مفلح البلوي منذ سنتين تخرجت من الثانوية العامة ومعدلي لا أعتقد أنه سيخذلني بأن أقبل في أي مجال أريد وفي أي كلية أرغب ولكن ظروفي الأسرية صعبة والمادية بالغة الصعوبة مما حتم علي البقاء بمدينتي القريات والمضي قدماً في رحلة البحث عن الوظيفة وهو الأمر الذي جعلني أعوم في بحر لا قرارة فيه حتى بلغ اليأس بي ذروة سنامه!! فسنتان أمضيتهما دون تبدل بالحال أو تغيير وهذا العام هو الثالث منذ تخرجي.. فكلي أمل بالله ثم بالقائمين على التعليم في هذا الوطن الغالي أن ينظروا لنا بعين المساواة مع كثيرين ينعمون بوفرة الجامعات والكليات والمعاهد في المدن التي يقطنونها ولا يفصلهم عن تكملة تعليمهم سوى بضع دقائق هي الوقت الفاصل بين مكان دراستهم ومنازلهم..
أما فيصل متعب الكويكبي فيقول ولله الحمد الظروف التي تحيط بي تساعدني على تكملة دراستي في أي مكان «داخل الوطن» حيث أحوالي المادية والعائلية جيدة ومعدلي يؤهلني لأن أنتسب للجامعة ولكن.. ما المانع لو أن بالقريات كليات أو معاهد تمنعنا من امتطاء صهوة الغربة والتحليق بعيداً عن الأهل والأقارب.. يقول أمضيت سنة ونصف السنة تقريباً في الرياض حيث كنت أدرس بجامعة الملك سعود وكوني من أبناء القريات وأدرس في مدينة الرياض فأنا أقع تحت مسمى «المغترب» فقد قاسيت الغربة بمعناها الحقيقي حيث المسافة بين القريات والرياض ليست بالمسافة التي من السهل تجعلني أقوم بزيارة الأهل عند أي طارئ وتحت أي ظرف أقلها الحنين والشوق للأهل وما زادني ألماً إلا عندما أرى أن من زملائي الكثر الذين معي بقاعة الدراسة من أبناء الرياض ما أن تنتهي فترة المحاضرات إلا ويهمون بالعودة لمنازلهم حيث بانتظارهم أب وأم وأخوة بينما أنا مقارنة بهم أعود لغرفتي الصغيرة بسكن الجامعة ولا أجد من ينتظرني أسوة بهم سوى سرير وخزانة وأربعة جدران.. مما جعلني أتساءل بيني وبين نفسي.. ما الذنب الذي اقترفناه حتى لا نتساوى مع هؤلاء وما المانع من افتتاح كلية أو معهد تبقينا بالقرب من أهلنا وذوينا.. أصبت بالحسرة وكابدت المعاناة في أقسى حالاتها.. إلى أن ضاق بي الحال فحملت حقائبي والغيض يكسو ملامحي ويملأ سريرتي وعدت من حيث أتيت..
أما معاناة فيصل فياض العماش فهي لا تختلف عن سابقيه إلا من حيث عدم التوفيق من الله حيث يقول: تخرجت العام الماضي بتقدير جيد جداً وكانت لدي طموحات كبيرة فعقدت آمالي بمواصلة دراستي بالمستوى الذي يكفل لي الحصول على وظيفة مرموقة تساعدني في رحلة البناء للمستقبل ولكني للأسف الشديد صُدمت بالواقع الذي لم أجرؤ على تأمله للحظات، حيث إن جميع الجامعات بكلياتها الكثيرة وبتخصصاتها المتعددة لم يشفع لي معدلي من القبول بأي منها.. فعُدت من حيث أتيت وورائي أجر خيبات أملي.. فكلي رجاء ويحدوني أمل بالمسؤولين منا أن ينظروا لي وللآلاف من الشباب الذين وقعوا أسرى تحت مغبة الواسطة.
فهد كاسب الشراري.. ليس حاله بأقل سوء من غيره فهو الذي أسره الضيق المادي وتكابد ذويه مصاريفه الدراسية الشاقة والتي زادها ضيقاً إيجار الشقة التي يسكن فيها خارج الجامعة بعد أن تم إخراجه من السكن أسوة بالكثير من الطلاب بغرض الترميم للسكن الجامعي يقول كنت أسكن في غرفة بالسكن الجامعي وما أن طلبت منا إدارة الجامعة ترك السكن من أجل ترميمه بعد سنوات طويلة من تشييده إلا وسارعت أنا وبعض الزملاء الذين لا تقل ظروفهم عني باستئجار شقة الهدف منها أنها تأوينا وتكون بديلاً للسكن الجامعي ريثما يتم الانتهاء من الترميم ونعود.. فلا عدنا مع تأخر مراحل الترميم ولم يعد باستطاعتنا تأمين إيجار الشقة والجميع يعلم بغلاء العقار بمدينة الرياض..
فصممت على العودة لأهلي ومدينتي بعدما أحسست أني أثقلت على أهلي بالمصاريف التي تكفل لي تكملة دراستي هناك فعدت والقهر ينتابني كلما تبادر بذهني هذا السؤال: ما الظروف التي تمنع أن نكمل تعليمنا بين أهلنا وذوينا وذلك بافتتاح كلية أو معهد أسوة مع غيرنا في المدن الأخرى وما الذنب الذي يجعلنا نعيش الغربة ونحن في وطن أكرمه الله في خيرات كثيرة لا تصعب عليه افتتاح كلية ونحن الذين ننعم بسبع جامعات على اختلاف تخصصاتها والكثير من المعاهد والكليات.. فأملي بالله كبير ثم بقيادتنا الرشيدة على منح هذا الحلم نافذة من خلالها نطل على الواقع بأبهى الصور وبأحسن الظروف..
ويتحدث لنا بمرارة أنور خالد الحربي عما آلت إليه أحواله وحياته المستقبلية خاصة وأن طموحاته كبيرة كان يعلق عليها الآمال يقول: بعد عناء سنوات وبعد جهد وتعب واكب مراحلي الدراسية لم تشفع لي في المضي قدماً نحو كل ما كنت أنشده وأحلم بالوصول إليه من وراء تلك السنوات التي قضيتها بالدراسة.. فبعد تخرجي من الثانوية العامة لم أترك مجالاً في الجامعات ولا في الكليات أو المعاهد إلا ووضعت ملفاً لي بها ومع ذلك لم أحظ بالقبول في أي منها مع العلم أن بعض زملائي قد تم قبولهم وهم أقل مني معدلاً.
فبات أمر عودتي للقريات ملحا ولا مجال للبقاء.. فعدت وكل أملي بأن أحظى بوظيفة تسهم نوعاً ما بتخفيف العبء الذي سينصب على عاتق أسرتي جراء عودتي وتحملها مصاريفي وإلى الآن لم أجدها.. فماذا لو تم افتتاح كلية أو معهد من خلاله نستطيع تكملة الدراسة ونحن بكنف ذوينا فلا أعتقد بأن الأمر فيه من الصعوبة ما يجعله مستبعداً عن الواقع الذي نحلم فيه خاصة وأن حكومتنا الرشيدة سباقة على نشر العلم في أي بيئة كانت وفي أي مجال.. فلم هذا الأمر قاصر على أبناء القريات؟!
أما مزيد قياض الرويلي وهو من خريجي عام 1420هـ لم يكن على خلفية من سبقوه فاختصر الطريق ومضى بالبحث عن وظيفة من خلالها يجد نفسه أكثر فاعلية بالمجتمع الذي يقطنه يقول: لولا استدراكي للوقت لأدارت الظروف ظهرها لي وبت الآن بلا وظيفة ولتيقني بأنه ليس باستطاعتي التغرب والبعد عن الأهل من أجل الدراسة عقدت العزم على البحث عن وظيفة ولو كان بمدينتي القريات معهد أو كلية لبادرت بتكملة تعليمي دون أن أتأخر لحظة فمسألة الغربة بالنسبة لي أمر لا أحتمله.. فالآمال معقودة بالله ثم برجال التعليم على لَمِّ أشلاء شباب تناثرت على دروب الغربة وأقحموا بعد تعب في مسألة البطالة والتي جعلت منهم أشخاصاً بلا هوية تحت مسمى «عاطل» وذلك من خلال كلية تسهم بتكميلهم للدراسة أو معهد يمنحهم شهادة تؤهلهم لوظائف تجعل منهم أناساً محسوبين على المجتمع..
ويمضي بالحال كما هو عليه حال سابقيه بالنسبة لمروان عبدالعزيز العنزي والذي عانى الكثير في بدء حياته الدراسية، حيث يقول: سافرت لمدينة جدة وأمضيت قرابة العام فيها فلا الجو المحيط كان يلائمني بأن أمارس ما أنا آت لأجله فأمر الحصول على شهادة جامعية حلم بات يراودني طيلة فترات دراستي ولم يكن بالحسبان أن الظروف ستتكالب علي من جميع صنوفها بدءاً بالأهل والحنين إليهم إلى الوصول «للمادة» والتي خذلني شحها في أحايين كثيرة ولم تساعدني ظروفي المادية على جني ثمار ما زرعته أبان مراحلي الدراسية وأصبحت بالنسبة لي أحد أهم الأسباب التي أوصلتني إلى ما أنا عليه الآن.. لا علم أنتفع به ولا وظيفة أنتفع من ورائها..!! والسؤال الذي بات يردده على مسامعي بلحظات حديثه.. ما السبب الذي جعل القريات مدينة بلا كليات أو معاهد وما الذنب الذي حتم على أبنائها أن يقعوا تحت لواء الغربة أو الانطواء خلف قضبان البطالة..؟؟
ويقول عبدالكريم مفلح سعد وهو أحد خريجي هذا العام: مع أني لم أترك باباً إلا وطرقته ولا طريقاً إلا وسلكته إلا أنني وللأسف الشديد لم أجد من يستقبلني في أي مجال أريد ولا حتى في المجال الذي لا أريد سواء بجامعات الرياض أو في جدة أو المنطقة الشرقية وحتى تبوك إلى أن وصلت لأبها..!! كل ذلك لم يشفع لي وكوني في مقتبل العمر فطموحي لا يقل عن غيري في الوصول إلى ما أصبو إليه ولكنها «تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن» وأوجه ندائي لكل من له يد في خط طريق مستقبلنا بعد الله أن يساعدنا على تكملة دراستنا من خلال معهد أو كلية يتم افتتاحها بالقريات بين أهلنا وذوينا.
السؤال الساذج
وتحدث لنا الأستاذ صالح بن عبدالله المريحيل مدير شؤون الطلاب بتعليم البنين بالقريات قائلاً: كثيراً ما يطرح التساؤل، لماذا لا تفتتح جامعة أو فرع جامعة أو معهد في القريات..؟ ويتلقى السائل الرد التقليدي الساذج وهو.. يا أخي كم عدد خريجي المدارس الثانوية بالقريات.. وللأسف إن المجيب لا يدرك حقيقة أن افتتاح الجامعات ليس مشروطاً باكتمال نصاب معين من الطلاب في هذه المدينة بعينها ويغفلون أن العلم «يؤتى ولا يأتي»، إن المدن الكبيرة المختصة بالجامعات والمعاهد قد أصبحت مختنقة وتحتاج إلى فك اختناق. وما يخص أبناء القريات خريجي الثانوية من توقف مسيرة التعليم لديهم يعني موت آمالهم وطموحاتهم بعد تخرجهم وهذا الأمر بلا شك يعد كارثة كبيرة تهدد أجيالاً بل مجتمعاً لعدم وجود أي قناة تعليمية بالقريات هذا من جهة ومن جهة أخرى، فإن الدخل للفرد في القريات بشكل عام يشارك جنباً إلى جنب في إيجاد الكارثة لعدم قدرة الوالد على ابتعاث ابنه داخلياً أو خارجياً وإن حصل الابتعاث تقع المشكلة الأخرى وهي شبح الغربة والبعد عن الأهل فيظل الشاب مهددا بهواجس تتجاذبه كيف يسكن.. وكيف يعيش ومع من يذهب وكيف يؤمن نفسه..؟؟ أوجه تساؤلي إلى المختصين والمخططين.. لمن التخطيط إن لم يكن للأجيال من خططنا نصيب الأسد..؟
إن بناء الصرح التعليمي اليوم سيبني لنا ألف مصنع غداً.. ولكن الهدف المادي بات مسيطراً على خططنا وسرعة الكسب وكميته هو غاية التخطيط وخير شاهد ما جرى ويجري الآن في أرض «بسيطا الزراعية» فكم من المليارات أنفقت على تلك المشاريع الزراعية والحيوانية وأليس من الأجدر أن تكون في الاستثمار البشري وتُبنى فيها صروح علمية بدلاً من «تسمين العجول».
إن أبناء القريات يعيشون تحت ضغوطات نفسية سيئة جداً خاصة وأنهم في مرحلة عمرية خطيرة تحتاج إلى عناية واهتمام.. فإلى متى تظل معاناة الشباب بين الفقر والبطالة المقعدة لهم في بيوتهم وبين عدم وجود الجامعات والفرص الوظيفية التي تسد وتشغل فراغهم.. يبقى هذا التساؤل مفتوحاً يجيب عليه أصحاب الشأن..
وتحدث لنا أيضاً الأستاذ عوض سمير العنزي رئيس قسم الامتحانات بتعليم القريات قائلاً:
إن خريجي الثانوية العامة بالقريات يزداد سنوياً بمعدل 10% تقريباً وأن هذه الأعداد المتزايدة تضطر للبحث عن فرص لإكمال دراستها الجامعية خارج القريات والتي تفتقر للمؤسسات التعليمية بعد مراحل التعليم العام، وبلا شك فإن القريات بحاجة ماسة لكلية أو معهد يتم إنشاؤه خاصة وأن الجامعات والكليات في مناطق شتى بالمملكة طاقتها الاستيعابية لا تتناسب مع الأعداد المتزايدة من خريجي الثانوية العامة..
واستطرد العنزي قوله: بأن رفع نسبة القبول بالجامعات والكليات بسبب تضاعف أعداد الخريجين أسهم بتضاؤل فرص الكثيرين ذوي النسب المتوسطة والتي تتراوح ما بين 75% إلى 85% من القبول في هذه الجامعات وهذا الأمر جعل من بعضهم لا يكملون الاختبارات من أجل الإعادة مرة أخرى للحصول على نسبة تكفل قبوله بإحدى الجامعات وهذا بلا شك يمثل هدراً تربوياً، وناشد العنزي بفتح جامعة تسد احتياج المحافظة وقراها المجاورة ومراعاة توزيع الكليات والمعاهد وعدم تركيزها في مدن معينة وناشد أصحاب رؤوس الأموال بالاستثمار في القطاع التعليمي ليسهموا مع الدولة في هذا المجال خاصة وأن قلة قليلة من أبناء القريات ذهبوا ليكملوا دراستهم الجامعية بالمملكة الأردنية ويدفعون مبالغ طائلة وهم بلا شك على استعداد لدفع أضعافها في بلدهم فلم لا يتوفر لهم ذلك..
إحصائيات وأرقام
وفي إحصائية حصلت عليها «الجزيرة» من خلالها تبين لنا أن أعداد الخريجين من الطلاب في الثانوية العامة خلال السنوات الخمس الماضية يتراوح ما بين «2500 طالب إلى 3000 طالب»، ونجد أن بما لا يقل عن 1000 طالب باتوا إلى الآن على بند «البطالة» وبعدد أقل منهم من التحقوا بوظائف على بند العمال وإما على وظيفة مستخدم بالأجر اليومي وبأقل عدد من هولاء بقوا يكملون دراساتهم في مدن المملكة وآخرين التحقوا بالجامعات الأردنية.
بقي أن نقول: إن لكل معضلة حلولاً.. ولكل سؤال إجابة وبلا شك أن المعنيين بهذا الشأن لديهم حلول وفيهم من يمتلك الدواء.
|