بين الظلام والظلم توافق شكلي. وضمني.. كلاهما أسود حالك يبعث على الخوف.. ويدعو إلى الدهشة والوجل.. الظلام قاسم مشترك أعظم بين المخلوقات.. والكائنات الحية.. بعضها تطعمه بضع ساعات.. وبعضها تطعمه بضعة أيام متتالية.. كلٌّ على قدر موقعه من كرتنا الأرضية.
والظلم أيضاً قاسم مشترك أعتم بين تلك الكائنات والمخلوقات.. القوي في مواجهة الضعيف، والضعيف في مواجهة الأضعف «العاجز من لا يتقوى ويظلم ويستبد» الا من رحم ربي..
لأدع الظلم جانباً.. الظلام هنا هو بيت القصيد حيث كنت أحد المذعورين منه إلى درجة لا تطاق.. ومنذ نعومة أظفاري. لقد أفرغ في ذهني أن الظلام مرادف للأشباح المتحركة.. للعفاريت. للشياطين.. للجن، وللجان.. جميعها تتحرك داخل عباءته.. تسكن أحياناً، وتلاطف أحياناً.. وتسالم أحياناً وتقاوم أحياناً ومن منا لا يخاف في صغره ذكر الجن والعفاريت؟! قبل خمس وستين عاماً مضت وكنت حينها في الثالثة عشرة من عمري.. في أوج ذعري وجبني، وخوفي من سدول الظلام مَرّت بي واقعة لا أجزم أكانت وهماً.. أم علماً.. رغم أن بصري جَسَّد لي الصورة دون ضبابية ولا تورية.. كنت عائداً إلى البيت الطيني الذي أسكنه في مسقط رأسي شقراء.. البيت مليء بالسراديب والغرف الموحشة الذي تحدث عنها من تحدث.. ونُقِل عنها أكثر من حكاية تؤكد أن أفراداً من الجن المسالمين يتولون إيقاظ أبي - رحمه الله - حين لا يستيقظ لصلاة الفجر.. هذه الحكايات رسخت في نفسي واقعاً له وقع الهروب أمام أية حركة تعترض طريقي ولو كانت على شكل قطة..
كنت عائداً إلى البيت بعد صلاة المغرب، كانت دقات قلبي تفضح مظهري بالشجاعة المصطنعة.. فتحت الباب الخشبي الموصل إلى الدار.. وأغلقت وأنا أجاهد خطواتي المرتعشة.. تسلقت بعضاً من الدرجات.. أحسست أن شيئاً من خلفي يلاحقني.. التفتُّ.. صعقت على مشهد امرأة تعمل لدينا وقد رفعت ما اعتقدت أنه نهديها بيديها.. حينها تسارعت خطاي متلاحقة تطوي مساحة الدرب بشكل صارخ. وباندفاعة صاروخ. ثلاثون ثانية أو أقل كنت في المطبخ.. المرأة التي تراءت لي من الخلف تلاحقني وقد رفعت - كما اعتقدت - نهديها بيديها.. ألفيتها أمام المقرصة ترفع يديها المحملتين بالخبز الرقيق.. ما نطلق عليه اسم «القرصان» من أجل إنضاجه..!! هل كنت حينها واهماً بفعل الخوف؟! هل أن الخوف يجسد الصور في ذهن الإنسان إلى درجة التصديق؟!
حتى هذه اللحظة لم أجد تفسيراً علمياً لما حدث لي.. وما قد حدث لآخرين غيري شاهدوا. وشهدوا.. وما زالت مشاهداتهم وشهاداتهم رهن الحيرة.. والتساؤل.. تبحث عن تفسير علمي لجانب من حياتنا المحيِّرة..
حتى هذه اللحظة وأنا أخشى الظلام، وأخاف الظلم.. تروّعني خفافيش الظلام، وأساطيل الظلم والإضلال لأنها في صدام مع السلام.. الذي بدونه تظل دقات قلوبنا تقرع الأسماع فزعة مستفزعة تبحث عن همسة ولمسة هدوء.
|