عندما طلب بعض الصحابة رضي الله عنهم وهم في مكة من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يدعو الله لهم ليخرجهم من هذا العذاب الأليم الذي يصطلون بناره في مكة، وأن ينصرهم على من يظلمهم من كفَّار قريش، وأن يخلِّصهم من هذه المعاناة القاسية.
عندما طلبوا ذلك كانوا يريدون خلاصاً سريعاً من واقع مؤلم يعيشونه، ويرون ان ذلك حقٌّ لهم، فالانسان يريد أن يتحقق له ما يحتاج اليه من الراحة والهدوء والاستقرار في حياته. إن عواطف البشر تميل الى ما يُسعد قلوبهم، ويُريح أجسامهم، وهي جزء من طبيعة الانسان وجبلَّته، ومطلب من مطالبه المشروعة.
ولكن السؤال المهم الذي يرد الى الذهن في هذه الحالة يقول:
كيف يتحقق للإنسان ما يريد، وكيف تسعد عواطفه بما تتوق اليه نفسه، ويميل اليه قلبه؟؟.
في علم الله عز وجل، وفي نواميس هذا الكون ما يؤكد ان «الدفق العاطفي» للانسان يكون مستعجلا سريعا، تواقاً الى تحقيق الهدف بأقل جهد، وفي أقصر وقت، ولكن هذا الدفق العاطفي قد يتعارض مع سنن الله الكونية، ومع أمور غيبية يعلمها الله عز وجل يتحقق بها المراد، ولكن في وقت أطول، وبصورة شاملة كبيرة تكون المصلحة فيها أعم.
وفي موقف الرسول صلى الله عليه وسلم من طلب بعض الصحابة المشار اليه سابقا ما يؤكد هذا المعنى، فهو بعد ان استمع الى شكواهم، وسمح لعواطفهم بأن تتدفق، ولألسنتهم أن تقول كل ما تحمله نفوسهم، وبعد ان أبدى لهم حقيقة مشاعره عليه الصلاة والسلام نحوهم وأكد لهم بإصغائه حرصه على اخراجهم مما هم فيه، بعد ذلك كله قال لهم مقالته الشهيرة التي أكد فيها ضرورة الصبر والاحتساب حتى يأتي الفرج الكبير من ربٍّ عزيز قدير، وضرب لهم في مقالته مثلاً بمن كان قبلهم من الأنبياء والصالحين موضحا صورة مؤثرة من صور الابتلاء والصبر والاحتساب توحي لأصحابه أن ما يلاقونه من أذى قريش في مكة إنما هو بداية الطريق الإصلاحي الطويل الذي سيلاقون فيه من المصاعب والمواجهات ما هو أشدُّ من هذا الأذى القرشيّ في مكة.
«كان يؤتى بالرجل فيمن كان قبلكم فينشر بالمنشار نصفين حتى يقع شقَّاه لا يردُّه ذلك عن دينه».
هنا تصبح صورة سياط جلاَّدي قريش، ولكماتهم ولطماتهم، وركلات أرجلهم صورة مقبولة إذا ما قيست بصورة ذلك الرجل الذي ينشر بالمنشار نصفين، وكأن البلاغة النبوية قد أدركت ان سؤالا ينشأ مباشرة في أذهان الصحابة وماذا بعد؟
فتكون الاجابة النبوية الصادقة الحاسمة مصحوبة بالقسم من أصدق الخلق حيث يقول:«والذي نفسي بيده ليتمنّ الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء الى حضروموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون».
هنا تكتمل صورة توجيه «الدفق العاطفيّ» الذي جعل بعض الصحابة رضي الله عنهم يطلبون من الرسول صلى الله عليه وسلم الدعاء بالخلاص العاجل مما يلاقون في مكة.
فالتوجيه النبوي يؤكد: ان حالة المسلمين في مكة قبل الهجرة حالة صعبة فيها معاناة واضحة، وألم وعذاب شديد من كفار قريش، ولكنها إذا قيست بالمؤمنين من الأمم السابقة الذين كانوا ينشرون بالمناشير تصبح حالة ميسورة، ويخفُّ وقعها القاسي على نفوس الصحابة رضي الله عنهم الى حد مقبول.
فإذا جاء بعد ذلك وعدٌ بنصر كبير مصحوب بقسم صريح واضح من الرسول صلى الله عليه وسلم فإنَّ الصورة تأخذ شكلاً آخر فيه من الإشراق والإضاءة ما لا يخفى، وفيه من تهيئة النفوس لتحمُّل أعباء المرحلة القادمة في الدعوة الى الله ما هو خليقٌ بمدرسة محمد بن عبدالله عليه الصلاة والسلام في تربية النفوس، وصقلها، والسموِّ بها.
إنَّ دفق العواطف مهمٌ لانطلاق الإنسان وحركته، ولكنه خطيرٌ إذا أصبح مهيمناً على عقل صاحبه وتفكيره، فما أحوجنا في هذه المرحلة الى تأمُّلٍ عميق قبل أن نخطو خطوة في الطريق.
إشارة:
كثر الزَّيْفُ في زماني، ولكنْ
لا يبالي من درعه الإيمانُ
|
|