ما زالت أمة المصطفى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بخير، وستظل بإذن الله كذلك إلى أن يرث الله الأرض وما عليها، ما ظلت فئة من المؤمنين يحكمون شرع الله في أمور دينهم ودنياهم يقررون أن هذا الدين صالح لكل زمان ومكان يستوعب متغيرات الزمان وتطورات الإنسان لتبقى حكمة الله في هذا الدين الذي أتم به نعمته على عباده وارتضاه لهم ديناً حنيفاً.
وقيَّض الله عز وجل لهذه الأرض الطيبة التي بزغ منها فجر الإسلام حكَّاما ساروا على نهج السلف الصالح وأقاموا دولة الإسلام. وكان من الطبيعي ان تخرج من هذا المجتمع كوكبة من العلماء تحمل لواء العلم الشرعي وتعمل على بناء لبنات المجتمع وفق نهج اسلامي يستوعب المتغيرات والتطورات ويرجعها إلى مرجعيتها الشرعية الصحيحة حتى يبقى النهج قائماً.
صلاح الشرع الحنيف لكل زمان ومكان يرتبط بميزة الاجتهاد في الإسلام، الذي اعطى الإسلام القدرة على أن يكون حاضراً في كل شأن يمس حياة الإنسان.
والاجتهاد في الإسلام يعطي للعلماء دوراً فاعلاً في المجتمع وفي حياة الناس كآلية يتمكن من خلالها المجتمع أن يتعامل مع متغيرات وتطورات الحياة بما يتسق مع الشرع الحنيف.
ويمكن القول إن الشأن الاقتصادي يأتي في مقدمة الأمور التي ترتبط بحياة الناس.. وقضايا الاقتصاد تتشعب وتتعقد بمعدل المساحة التي يتحرك فيها الاقتصاد. وفي عصر العولمة لا تكون لهذه المساحة حدود. وهنا يكون للاجتهاد دور فاعل في تنظيم التعاملات الاقتصادية وفق منهج شرعي واضح لا لبس فيه.
ولعل المعاملات المصرفية (البنكية) هي أكثر التعاملات الاقتصادية إثارة للجدل في العصر الحديث بحكم ما قد يكتنف بعض المعاملات المصرفية التقليدية من شبهة الربا. وقد أحسنت البنوك التجارية في المملكة العربية السعودية في التعامل مع هذا الأمر بموضوعية وبنهج خلاق مكّنها عن طريق اللجان الشرعية التي تضم كوكبة من علماء هذه البلاد، من إقرار صيغ إقراض وتمويل إسلامية شرعية تزيل لبس الربا وتقدم خدمات مصرفية متوافقة مع الشريعة الإسلامية ترضي بها شريحة كبيرة من المجتمع.
وتمكنت معظم البنوك التجارية السعودية من إقرار صيغ مصرفية إسلامية استثمرت فيها مبادئ التعاملات الاسلامية المالية المشروعة مثل عقود الاستصناع والمرابحة والتجارة والتورق والمشاركة المتناقصة وغيرها. هذه الخطوات العملية أكدت على تفاعل العلماء مع الشأن الاقتصادي. وبحكم تخصصي في الاقتصاد وارتباط عملي الاستشاري بقضايا التمويل، أدركت في تعاملي مع بعض مؤسسات التمويل الغربية ان عقد الاستصناع على سبيل المثال، قد لاقى قبولاً حسناً عند عرضه ومناقشته وإقراره مع بعض مؤسسات التمويل الغربية التي وجدت في الصيغة الإسلامية فائدة أكبر. وهذا الواقع يؤكد اعتزازنا بهذا الدين الحنيف ويجعله مصدر فخرنا كنبع فكري لاينضب.
ومما يثير الإعجاب والفخر في هذا السياق هو قيام مجموعة من علماء هذه الأرض الطيبة بتجاوز مرحلة الاكتفاء بتنظيم التعاملات المصرفية بما يتفق مع الشريعة الاسلامية إلى مرحلة العمل المباشر في خلق فرص استثمارية لمشروعات تنموية يتم تمويلها خارج نطاق النظام المصرفي ووفق الشريعة الإسلامية بما يفرز من فرص الاستثمار في الاقتصاد السعودي ويعمل على تسخير مدخرات المجتمع واستيعاب رغبات كل الناس. والعلماء الأفاضل الناشطون في هذا المجال كثيرون ولله الحمد. ولكني اطلعت مؤخراً على دليل المستثمر لمشروع مدينة فجر السياحية في أبها، عاصمة السياحة في بلادنا العزيزة. وهو مشروع سياحي متكامل سيكون له دور رائد في تعزيز أبها كوجهة سياحية متميزة يتوج الجهود الجبارة التي مازال يبذلها رائد السياحة الأمير خالد الفيصل.
ولهذا اخترت الدكتور سعد عبدالله البريك كأنموذج لتفاعل العلماء مع الشأن الاقتصادي في بلادنا العزيزة.
هذا التفاعل مهم جداً وفي مثل هذه المشروعات التنموية بشكل خاص، بحكم ما يمكن ان يكون عليه القطاع السياحي باعتباره من أهم موارد الدول المتقدمة ورافداً أساسياً لاقتصاداتها.
وفي هذا المشروع بشكل خاص عمل الدكتور سعد عبدالله البريك مستشاراً شرعياً للشركة وتمكن من وضع اللوائح التنظيمية للمشاركة في مشروعاتها وفق مشاركة استثمارية تخضع لأحكام الشريعة الاسلامية ولاتتعارض مع الأنظمة المعمول بها في المملكة العربية السعودية.
وتقوم هذه الصيغة الاستثمارية الشرعية على أساس عقد مشاركة بين المشاركين (المستثمرين) والمشارك الرئيسي (الشركة) وهو عقد لمدة زمنية محددة يوزع في نهايتها ما يتم تحقيقه من ارباح على أطراف العقد وفق الاتفاق الذي تفصله اللوائح التنظيمية.
هذا الأنموذج جدير بالتقدير، وهو قدوة حسنة، وخطوة عملية يؤكد فيها علماء هذه الأرض الطيبة أن الإسلام نهج اقتصادي قادر على تقديم حلول مثالية في زمن العولمة.
* رئيس دار الدراسات الاقتصادية - الرياض
|