أصدرت منظمة الشفافية الدولية، التي تأسست عام 1993م كمنظمة غير حكومية مقرها برلين «ألمانيا» مؤخراً مؤشر الشفافية (النظرة للفساد) لعام 2003 وذلك للعام الثامن على التوالي. وقد تنامى الاهتمام عالميا بهذا المؤشر الذي يقيس عبر مجموعة من المسوحات ومصادر معلومات معتمدة مدى تفشي الفساد في الدولة وتأثيره في مناخ الاستثمار ومدى فعالية الجهود القطرية للحد من تفشيه واقرار مبادئ المحاسبة والمكاشفة والنزاهة وسيادة حكم القانون.
وفي هذا الاطار عقدت في فيينا «النمسا» في مطلع تشرين الاول/ أكتوبر الماضي الجولة السابعة والاخيرة لوضع اتفاقية الأمم المتحدة لمحاربة الفساد لتعرض في صيغها المقترحة على الجمعية العامة في الامم المتحدة في نهاية الشهر تمهيداً لفتح باب التوقيع عليها في مؤتمر دولي سيعقد في مريدا «المكسيك» خلال الفترة 9- 11/1/2004م. وستكون هذه الاتفاقية أساسا لوضع استراتيجية وطنية لمحاربة الفساد استناداً الى مبادئ الحكم الرشيد والشفافية والمحاسبة والنزاهة وسيادة القانون، كما تم اختيار يوم 9/12 ليكون اليوم العالمي لمحاربة الفساد، وتزايد الوعي عالميا باعتبار الفساد أحد عوامل تعميق الفقر خاصة في اقتصادات الدول النامية وأصبحت محاربة الفساد احد محاور سياسة متكاملة لمحاربة الفقر، وفي هذا الشأن تعهدت الدول الصناعية المتقدمة بمد يد العون لمساندة جهود الدول النامية التي تعاني من تفشي هذا «الوباء الاداري» وانعكاساته الاقتصادية والاجتماعية السلبية.
ومن جهتها اطلقت منظمة التجارة العالمية في الاجتماع الوزاري الخامس الذي عقد في أيلول/ سبتمبر الماضي في كانكون «المكسيك» اطلقت جولة مفاوضات متعددة الاطراف حول الشفافية في المشتريات الحكومية.
وقد أصبحت مؤسسات التمويل والتنمية الدولية والاقليمية تشترط على الدولة المستقبلة للمنح والمساعدات والقروض اثبات خلوها من الفساد وابراز الجهود الوطنية المتخذة لمحاربة الفساد، وقد أثارت فضائح عدد من الشركات الضخمة في الولايات المتحدة الانتباه الى أهمية تعزيز الشفافية في ممارسات الشركات والاخذ بمبادئ حسن إدارة الشركات وضبط أساليب الاداء والحرص على شفافية المعلومات المالية والاقتصادية المقدمة للمساهمين والجهات الرقابية.
وقد تزايدت الدعوة الى تعزيز دور منظمات المجتمع المدني ووسائل الاعلام لفضح الممارسات الخاطئة وترقية الوعي بشأن أهمية محاربة الفساد وزيادة شفافية المعلومات وتعميق مفاهيم حسن أداء الشركات وضمان حرية التعبير، إذ يعمل مع منظمة الشفافية الدولية 90 فرعا قطريا ونقطة اتصال منها (8) في الدول العربية، ونشطت العديد من مؤسسات المجتمع المدني العاملة في مجال محاربة الفساد وحماية حقوق الانسان وضمان حرية التعبير والمطالبة بالشفافية في المعلومات وحماية الصحافيين والاعلاميين الذين يكشفون فضائح الفساد ويعرضون حياتهم للخطر وللسجن، وفي هذا الشأن تقدم منظمة الشفافية الدولية جائزة النزاهة سنويا لأحد هؤلاء الصحافيين.
وقد توسع مؤشر الشفافية هذا العام ليضم 133 دولة مقارنة مع 102 دولة عام 2002 و41 دولة عام 1995 عند صدوره للمرة الأولى، واستند مؤشر عام 2003 إلى 17 مسحا ميدانيا صادر عن 14 مؤسسة دولية مستقلة منها منتدى الاقتصاد العالمي والمؤسسة الدولية للتنمية الادارية والبنك الدولي ومؤسسة فريدوم هاوس وشركة برايس وترهاوس كوبرز وغيرها.
وتنبه منظمة الشفافية الى ضرورة توخي الحذر عند مقارنة البيانات من سنة لأخرى بسبب كون المؤشر يستند الى بيانات نوعية مستخلصة من مسوحات رأي ترسل الى عينات مختارة ومختلفة وليس الى مقاييس كمية احصائية للاداء، ولضمان مصداقية هذه البيانات لابد لقبول الدولة في المؤشر من أن يكون قد تم فيها اجراء 3 مسوحات للرأي على الاقل حول النظرة للفساد ولهذا تستبعد أحيانا دول من المؤشر، كما يؤخذ معدل البيانات على أساس ثلاث سنوات من ضمنها سنة اصدار المؤشر.
ووفق دليل المؤشر يدل رصيد (صفر) على درجة فساد عالية ورصيد (10) على درجة شفافية عالية اما ما بين (صفر - 10) فيدل على مستويات متدرجة من الشفافية من الاسوأ الى الأحسن تباعا، وقد جاءت فنلندا وايسلندا والدنمارك ونيوزلندا وسنغافورة كأفضل 5 دول في خلوها من الفساد، أما بنغلاديش ونيجيريا وهايتي وباراغواي ومينامار فكانت أسوأ 5 دول من حيث تفشي الفساد، وبالنسبة لوضع الدول العربية في المؤشر من الملاحظ ان عددها ارتفع بشكل ملحوظ في مؤشر هذا العام إذ بلغت 18 دولة بعد أن كانت 4 دول فقط (الأردن، تونس، مصر، والمغرب) طوال الفترة السابقة.
ومن جهة أخرى تصدر منظمة الشفافية باروميتر (تقلبات الفساد) الذي يرصد تأثير الفساد على القطاع العام، وتقوم مؤسسة جالوب العالمية المتخصصة بالاستطلاعات بالرصد المطلوب من خلال خمسة محاور تعكس تأثير الفساد على حياة الافراد والعائلات وبيئة أداء الاعمال والحياة السياسية ومنظومة القيم والثقافة في المجتمع، كما ترصد التوقعات المستقبلية حول الفساد لثلاثة اعوام مقبلة، ولغرض اعداد هذا المؤشر قامت جالوب باستطلاع أراء نحو 41 ألف شخص في 47 دولة في تموز/ يوليو 2002 استجاب منحهم حوالي 30 ألف شخص من 44 دولة ونشرت في تموز/ يوليو 2003 وقد غطى المسح 12 مجالا مطلوب تغيره لتحسين البيئة وضمان خلوها من ممارسات الفساد تشمل إصدار ترخيص الاعمال/ أداء المحاكم/ الجمارك/ النظام التعليمي/ الأحزاب السياسية/ الحصول على الخدمات/ الخدمات الطبية/ نظم الجوازات والهجرة/ الشرطة/ وضع القطاع الخاص/ ضرائب الدخل/ وأخرى. وقد أبرزت النتائج بالمعدل أن الاهتمام الأولي ينصب على معالجة دور الاحزاب السياسية في تعزيز الشفافية يليها تحسين نظام التعليم ثم تحسين أداء المحاكم والشرطة.
وصدر عن منظمة الشفافية الدولية (تقرير الفساد العالمي 2003) وهو الثاني من نوعه منذ عام 1999 ويغطي 16 منطقة جغرافية في العالم منها منطقة الشرق الأوسط وشمال افريقيا التي تضم 17 دولة عربية ودولتين غير عربيتين، وحث التقرير كافة الدول على اتخاذ خطوات عملية لمحاربة الفساد في اطار استراتيجية شاملة ذات أبعاد علاجية ووقائية وتشريعية وقضائية وإدارية وإعلامية.
ويشير التقرير الى ان المنطقة العربية تأثرت سلبا خلال العامين الماضيين بتصاعد حالة عدم الاستقرار السياسي والامني واستهدافها بالحملة التي أطلقتها الولايات المتحدة لمحاربة الارهاب بعد احداث 11 أيلول/ سبتمبر، والتي ارتبطت أيضا بمحاربة غسيل الاموال، وتوجه الدول العربية لاقرار تشريعات خاصة بغسيل الأموال (البحرين ولبنان ومصر وقطر وسلطنة عمان والسعودية والإمارات والكويت واليمن)، وجاء في التقرير ان مجتمع الاعمال العربي يستشعر مدى التأثير السلبي للفساد في افشال جهود جذب الاستثمار الاجنبي إضافة الى اثاره الاقتصادية والاجتماعية السلبية ككل.
كما أفاد التقرير ان العديد من المصارف والمؤسسات في المنطقة قد وقعت ضحية لتفشي الفساد (مصر والأردن والمغرب والجزائر) ويتطرق التقرير الى أن الفساد يمكن أن يتواجد في كافة مناحي الحياة الاقتصادية والاجتماعية وفي موازنات الدولة وفي اتخاذ قرارات وفي التعيين والانتخابات وفي منح رخص الاعمال وفي المشتريات والمناقصات الحكومية وفي إدارة الخدمات العامة والشرطة وإنشاء شركات وهمية وتقديم العمولات والرشاوي - وغياب الشفافية بسبب عدم توافر المعلومات أو بسبب ضآلتها، وقد قامت بعض الدول العربية بإنشاء مجالس لمحاربة الفساد (الأردن والمغرب) كما أنشأت اليمن لجنة حكومية عليا برئاسة رئيس الوزراء لمحاربة الفساد ووضع آلية محددة للرقاية في إطار استراتيجية متكاملة لمحاربة الفقر وللمحاسبة ووضع ضوابط لحماية المال العام وتعزيز الديمقراطية وحقوق الانسان وتحقيق العدالة الاجتماعية.
وفي مسح قامت به جمعية الشفافية المغربية في أوساط رجال الاعمال لرصد العقبات التي تواجههم في أدائهم للأعمال، جاء ترتيب الفساد في الدرجة الثانية بعد ارتفاع الضرائب كمعيق للاستثمار، وينوه التقرير انه رغم تزايد اهتمام الدول العربية بمحاربة الفساد وغسيل الاموال واقرار مبدأ المحاسبة لموظفي القطاع العام والتوجه لتعزيز الشفافية في المناقصات الحكومية إلا انها لم تصل الى اقرار اتفاقية عربية اقليمية لمحاربة الفساد بينما مناطق أخرى من العالم وضعت اتفاقيات اقليمية لمحاربة الفساد (افريقيا وأمريكا اللاتينية ودول منظمة التعاون الاقتصادية والتنمية).
|