البكاء غريزة أودعها الله سبحان وتعالى في الانسان عند المصائب منذ الازل بدليل اننا نستقبل هذه الحياة بالبكاء ساعة الولادة ونودعها بالبكاء ساعة الموت.
ولقد ذكر الشعراء البكاء في قصائدهم في مواقف كثيرة منها المحزن ومنها المفرح فحتى عند الفرح يبكي الانسان.
ولنصاحب الشاعر الجاهلي امرأ القيس وهو في طريقه الى قيصر الروم مع صاحبه في الرحلة عندما تعب صاحبه من طول الطريق وقرر العودة فأنشد امرؤ القيس قائلا:
بكى صاحبي لما رأى الدرب دونه
وأيقن انا لاحقان بقيصرا
فقلت له لا تبك عينك إنما
نحاول ملكا او نموت فنعذرا
وهذا شاعر الشعراء محمد مهدي الجواهري ذلك العملاق عندما يتذكر أيام شبابه وصباه وقد جاوز التسعين من العمر لنستمع اليه وهو يتحسر على ايام شبابه ويبكي صباه.
بكيت على الشباب وقد تولى
كمن يبكي على قدح مراق
والبكاء عند بعض الناس ربما يكون مصطنعا كدموع التماسيح ولذا فقد اشار اليه ابو محمد ابو الطيب المتنبي في قوله:
إذا اشتبهت دموع في خدود
تبين من بكى ممن تباكى
وهناك شاعر آخر لا يحضرني اسمه يعتب على محبوبته وانها علمته ببعدها كيف يبكي ويتمنى لو انها علمته كيف يبتسم فيقول:
هم علموني البكاء لا ذقت فقدهم
يا ليتهم علموني كيف ابتسم
وهذا الشاعر ابو الفتح البستي يصف لنا بكاء شخص اسمه ابو علي ويوضح لنا حزنه على رغيفه عندما كسر وليس على حبيبته التي ابتعدت عنه
إذا كسروا رغيف ابي علي
بكى يبكي بكاء فهو باك
وهنا يجب الا نلوم انسانا رأيناه يبكي ويندب حظه حتى نعلم سبب بكائه، فهذا الشاعر الفلسطيني سميح القاسم يقول:
يا مصر يا مصر اشكو ما يؤرقني
فهل يلام جريح صاح من ألم
وشاعر آخر يبكي على فراق حبيبته ويختلط البكاء بالضحك كما تصف لنا الابيات التالية للأصفهاني.
إن التي عذبتني في محبتها
كل العذاب فما ابقت ولا تركت
عاتبتها فبكت فاستعبرت جزعا
عيني فلما رأتني باكيا ضحكت
فعدت اضحك مسرورا بضحكتها
مني فلما رأتني قد ضحكت بكت
تهوى خلافي كما حثت براكبها
يوما قلوص فلما حثها بركت
وهذا الشاعر يحثنا على الا نشكو همومنا ومصائبنا وجراحنا للناس بل الى الله سبحانه وتعالى فيقول:
لا تشك للناس جرحا انت صاحبه
لا يؤلم الجرح الا من به ألم
ولكن في بعض المواقف ربما يكون الصمت تعبيرا عن البكاء ولنعد الى الجواهري في احد أبياته الرائعة ليقول لنا ان الصمت ربما يغني عن البكاء.
وحين تطغى على الحران جمرته
فالصمت افضل ما يطوي عليه فم
أما ابو العتاهية الزاهد فيصور لنا بكاءه على فقد ابنه فيقول:
بكيتك يا بني بدمع عيني
فلم يغن البكاء عليك شيئا
وفي موضع آخر يتحسر على الشباب
بكيت على الشباب بدمع عيني
فلم يغن البكاء ولا النحيب
اما يزيد بن معاوية فيصور لنا كف حبيبته وقد تلون من دموع عينيها عندما بكت لفراقه دما وربما يكون في البيت مبالغة واضحة فترد عليه لتقول ان هذا ليس دما.
بكيت دما يوم النوى فمسحته
بكفي وهذا الاثر من ذلك الدم
اما ابن الرومي ذلك الشاعر الذي صاحبه التشاؤم منذ ولد فيقول:
لما تؤذن الدنيا به من صروفها
يكون بكاء الطفل ساعة يولد
وفي مكان اخر يقول عند فقد ولديه:
بكاؤكما يشفي وان كان لا يجدي
فجودا فقد اودى نظيركما عندي
ثم يأتي الصمة القشيري ليقول ويصف لنا بكاء عينيه.
بكت عيني اليسرى فلما زجرتها
عن الجهل بعد الحلم اسبلتا معا
وهناك شاعر اسمه «صر در» يقول لنا ان البكاء لا يعيد ما فات.
بكى الناس من قبل احبابهم
فهل احد منهم راجع
اما قيس بن ذريح فيصف لنا بكاء الدار بعد رحيل اصحابها عنها فيقول:
بكت دارهم من نأيهم فتهللت
دموعي فأي الجازعين ألوم
أخيرا اقول عندما يكون الشعر صادقا ونابعا من وجدان الشاعر فانه ربما يضطره للبكاء كما في احدى قصائد محمد مهدي الجواهري عندما كان يلقي قصيدته الرائعة «بريد الغربة» التي ارسلها الى اسرته في بغداد عام 1965م من براغ وتذكر وفاة زوجته «أمونة» ام فرات.
اقول وربما قول يدل به ويبتهل
الا هل ترجع الاحلام ما كحلت به المقل
ويحضرني في النهاية موقف ام عبد الله الصغير آخر ملوك بني الاحمر في الاندلس من ابنها عندما قالت له: