Friday 21st november,2003 11376العدد الجمعة 27 ,رمضان 1424

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

وداع المحبين لرمضان وداع المحبين لرمضان
د. محمد بن سعد الشويعر

المحبة شيء يقذفه الله في قلب المحب، ليشعر بالميل نحو من أحبّ، فيهفو فؤاده، وترق طباعه، ورمضان الذي استقبله المسلمون، قبل أيام، تصرمت أيامه سراعاً، عند من يتمنون طولها، حتى يأنسوا ويفوزوا بنفحات هذا الشهر الذي له في المذاق حلاوة، وفي ذكره طلاوة.
وما ذلك إلا أن أيام السرور قصار، ومع أن الأيام في الحساب الزمني لا تتفاوت ولا تتبدل، لكن السرور يقصرها، رغبة في زيادة المكث، حتى يمتد السرور، أما أيام الحزن والآلام، فهي طويلة، مثلما وصفها الشاعر:


ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي
بصبح وما الإصباح منك بأمثل

وإذا كان المحب عندما يودع من أنس به فؤاده، وأحبه قلبه يذرف الدموع وتعصر فؤاده الآهات، فإن وداع رمضان بين حالتين:
الأولى من فرّط وخرج رمضان ولم يغفر له، فهذا، كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث جبريل: «رغم أنفه».. أي باء بالخسران والمهانة، لأنه فرّط وضاعت منه الفائدة، لكن بقيت فرصة في الساعات المتاحة من رمضان لأن الأعمال بالخواتيم، فربّ ندامة يتلوها جدّ فيما تبقى من رمضان، يجعل الله فيها خيراً كثيراً، وفوزاً عظيماً قد يلحق المرء به المبادرين في سعيهم للخير، من أول رمضان، إن لم يعلو على بعضهم.. ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والمهم هو الصدق والإخلاص.. لأن الأعمال بالنيات.
والحالة الثانية: لمن جدّ من أول رمضان أو من وسطه، وثبت على ذلك، بأن ندعوه إلى التواضع، وحسن الخلق، حتى يكون سمته ووقاره بعد انتهاء رمضان سمته ووقاره في رمضان وخصاله وأعماله، منسجمة مع فوائد رمضان، وما ترك هذا الشهر في النفس من صفات جميلة، وأعمال طيبة.. ولا يكون ممن يودع رمضان بنقيض ما كان يعمل في رمضان، من صفات وأعمال.. سواء كانت فيما بينه وبين الله، أو فيما يتعلق بعلاقته مع الناس.
قيل لبعض السلف: إن بعض الناس إذا خرج الشهر الكريم رمضان تركوا ما كانوا عليه من أعمال حسنة: صوماً وعبادة وتلاوة للقرآن وذكراً لله وصدقة وصلاة، وغير ذلك من الطاعات وعادوا الى ما كانوا عليه من المعاصي مع التقصير في الطاعات.. فأجاب: إن ربّ رمضان هو رب الشهور كلها، بئس القوم لا يعرفون الله إلا في رمضان.
ولذا فمن محبة رمضان اتباع الأعمال الصالحة، بأعمال صالحة والاستقامة على الطريقة التي اعتادها في رمضان لأن ذلك من علامات القبول في رمضان.
فمن دروس رمضان التي استفادها الإنسان: حفظ اللسان عن الغيبة والنميمة، والفحش، والبهتان، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم حث على ذلك في كل وقت وفي رمضان آكد، وأبان بأن من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في صيامه، وعن المرأتين اللتين، أضناهما الجوع والعطش، وأخبر عنهما صلى الله عليه وسلم، فقد أمر بقدح وأن تقيئا فيه، فقاءتا صديداً ولحماً عبيطاً، وقال عنهما: لقد صامتا على ما أحل الله، وأفطرتا على ما حرّم الله: تأكلان لحوم الناس» يعني بالغيبة والنميمة.
فحفظ اللسان من ألزم الأمور لسلامة الصوم، والاستقامة عليه دائماً، فلا يُفْلت إلا فيما فيه نفع ومنفعة، وما أكثر وجوه الخير التي يتجه إليها اللسان، إذا حرص صاحبه على المحافظة عليه، ليكون من وداع هذا الشهر، الاستقامة على تمكين الحراسة على اللسان، الذي يعين الله من صدق: بقوة الإرادة والثبات والعزم، والتحكم بإغلاق الأبواب عليه وهي: الشفتان والأسنان، وهي أقفال جيدة إذا حفظ المرء مفاتيحهما، مثلما يحافظ على خزائنه، وما فيها من مدّخرات ثمينة.
كما أن من دروس رمضان المستفادة، ما تحث عليه سلوكيات رمضان: من طمأنينة وعدم الفحش، ومحبة ونبذ للخصومات، ووفاء وإخلاص، وتنظيم واهتمام بالأمانة، وصدقات وتفقد للمحتاجين، وذكر لله وتلاوة للقرآن الكريم، وتزاور واهتمام بشؤون الآخرين.. وغير هذا من المكارم التي يحث عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، عندما أخبرته سفّانة بنت حاتم الطائي بعدما وقعت في الأسر واستعطفت الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام، بأن يمن عليها ويطلق سراحها قالت: إن أبي يقري الضيف، ويجود على المحتاج ويفك العاني وعنده خصال كثيرة حميدة، فقال صلى الله عليه وسلم: «خلّوا عنها فإن أباها يحب مكارم الأخلاق والله سبحانه يحب مكارم الأخلاق».
وإن من وداع رمضان الحرص على جميع الخصال الحميدة التي تعوّدها الصائم في شهر رمضان، والاستمرار عليها بعد رمضان، لأنها جواهر ثمينة، جملت المسلم في نومه ومشيته، وفي حركاته وسكناته، وفي اهتمامه بإخوانه وتوثيق العلاقة معهم، وفي التصافي ونبذ الشحناء، فينبغي له أن يثبت عليها: خلقاً لا تخلقاً، وطبعاً لا تطبعاً.
وما مجيء رمضان مرة في السنة، شهر من بين شهور السنة الاثني عشر، إلا للتجديد والتذكير، وإلا فهي سمات المسلم، وخصال أهل الإيمان.. والذكرى تنفع المؤمنين.
والمودِّع من محبته واخلاصه لمن يودعه، أن تكون الوصايا بينهما في هذا الوداع متأصلة، ورمضان هذا قد يكون الأخير، لمن تنصرم آجالهم قبل إدراك رمضان الثاني، وذلك بالثبات على كل أمر عاد بالنفع على الصائم، أو منه لغيره من أخوانه المسلمين، حتى يتواصل الخير، ويستمر النماء.. لأن رمضان لمن أدرك وظائفه واهتم بها تطبيقاً، ما هو إلا مدرسة، ومكانة المدرسة بما تتركه في تلاميذها، من سجايا مميزة، ذات أثر بالغ في التعليم والتربية.
بل إن ما قصرنا فيه في رمضان، فإن علينا أن نتداركه فيما بقي من أيام أخيرة من هذا الشهر، حيث الأعمال بخواتيمها، فقد تكون فيها ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر خالية منها، والتي أخبر صلى الله عليه وسلم: أن من قامها إيماناً واحتسابا، غفر له ما تقدم من ذنبه.. كما أن ليلة العيد، ويوم العيد فيهما، أجر عظيم، لمن وفقه الله، لمن أخبر الله سبحانه عنه ضمناً في دلالة سورة ليلة القدر، وما أخبر عنه صلى الله عليه وسلم عن العتقاء من النار في ليلة العيد.. فلا نقصّر في وداعنا لرمضان، بالتهاون فيما أخذناه من دروس رمضانية، في أنفسنا وأسرتنا ومجتمعنا وتآلفنا، فهي فضائل يجب المحافظة عليها، وعدم مرورها بدون إدراك لمكانتها وحفظها.
مناظرة مع الخوارج:
جاء في سيرة عمر بن عبدالعزيز لابن عبدالحكم: أنه بعث للحروري وأصحابه، حين خرجوا بالجزيرة، فجاءه رجلان منهم شيباني وحبشي اسمه عاصم، وصعد إليه في غرفة وعنده كاتبه مزاحم، فقال: ابحثوهما ألا يكون معهما حديدة ثم أدخلوهما، فلما دخلا سلّما ثم جلسا، فقال عمر: أخبراني ما أخرجكما، وأي شيء نقمتم علينا؟
فقال عاصم وكان لسناً وقوي الحجة: ما نقمنا عليك في سيرتك، ولكن بيننا وبينك أمر إن أعطيتناه فأنت منّا، ونحن منك، فقال وما هو: قال: رأيتك خالفت أهل بيتك، وسلكت غير طريقهم، فإن زعمت أنك على هدى وهم على ضلال فابرأ منهم والعنهم، فهذا يجمع بيننا وبينك.
قال: فيما يظهر خرجتم تطلبون أموراً فأخطأتم سبيلها، وأنا سائلكم عن أمر فبالله لتصدقاني. قالا: نفعل.
قال: أرأيتم أبابكر وعمر؟ أليسا من أسلافكم، وممن تتولّون وتشهدون لهما بالنجاة؟ قالا: بلى. قال: ألم ترتد العرب وقاتلهم أبو بكر فسفك الدماء وسبا الذراري وأخذ الأموال؟ قالا: قد كان. قال: وعمر لما قام بعده ردّ تلك السبايا إلى عشائرهم. قالا: نعم. قال: فهل برئ أبوبكر من عمر، أو عمر من أبي بكر؟ قالا: لا. قال فهل تبرأون من واحد منهما؟ قالا: لا.
قال: أخبراني عن أهل النهروان أليسوا أسلافكم؟ قالا: بلى. قال ألم يخرج إليهم أهل الكوفة وكفّوا أيديهم فلم يسفكوا دماً ولم يأخذوا مالاً؟ قالا: قد كان. قال: وأهل البصرة لما خرجوا إليهم مع عبدالله بن وهب استعرضوا الناس فقتلوهم وقتلوا عبدالله بن خباب وجارتيه، ثم صبحوا حياً من العرب فقتلوا الرجال والنساء والولدان، حتى جعلوا يلقون الأطفال في قدور الأقط وهي تفور بهم؟ قالا: قد كان. قال: فهل برئ أهل الكوفة من أهل البصرة، أو أهل البصرة من أهل الكوفة؟ قالا: لا.
قال: فهل تبرأون من طائفة منهما؟ قالا: لا. وبعد أن أتى بشواهد أخرى...
قال: هل يسعكم في الدين شيء يعجزني؟ قالا: لا. قال:
فكيف وسعكم أن توليتم أبا بكر وعمر، وتولى كل منهما صاحبه، وقد اختلفت سيرتهما، أم كيف وسع أهل الكوفة أن تولوا أهل البصرة، وأهل البصرة أهل الكوفة، وقد اختلفوا، وكيف وسعكم أن توليتموهم جميعاً، وقد اختلفوا في أعظم شيء: الأموال والدماء، ولا يسعني بزعمكم: إلا ألعن أهل بيتي والبراءة منهم، فإن كان لعن أهل الذنوب فريضة مفروضة، لا بد منها، فأخبرني أيها المتكلم متى عهدك بلعن فرعون؟ قال: لا أذكر متى لعنته قال: ويحك فيسعك ترك لعن فرعون، ولا يسعني بزعمك إلا لعن أهل بيتي والبراءة منهم، ويحكم إنكم قوم جهّال، أردتم أمراً فأخطأتموه، فأنتم تقبلون من الناس ما ردّ عليهم رسول الله، وتردون عليهم ما قبل منهم، ويأمن عندكم من خاف عنده، ويخاف عندكم من أمن عنده، قالا: ما نحن كذلك. قال: بل تقرّون بذلك الآن.قال عاصم: ما رأيت حجة أبين ولا أقرب مأخذاً من حجتك، أما أنا فأشهد أنك على الحق وأبرأ ممن خالفك، فأقام عنده خمسة عشر يوماً ثم مات.
«ص130»

 

[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-janirah Corporation. All rights reserved