من أبجديات أول درس يتعلمه الأطفال في روضة الحياة ألا يحتكروا الصواب والحقيقة بطريقة نخبوية ترى ان ما يصدره ذلك العقل غير قابل للتحرير والمناقشة، ولكن عصرنا الذي انقلب فيه كل شيء حتى تمت ترجمة المصطلحات وتفسير منظومات القيم بمقاييس الاستبداد الفكري والقمع الثقافي من واقع يحمل كل هذا التردي وهذه البثور المتقيحة بعدما قضم الذات ونكل بها ليقول كل شيء عن أي شيء ودون أن يعي شيئاً، وهو بين المطرقة والسندان وكل ما فيه مهدد بالتشكيل كي يعاد إنتاجه رغماً عن إرادته على شكل القالب الذي صب فيه مذاباً، وعليه بعد ذلك أن يتأقلم ويستسلم لمن احتكر الصواب وفرض حقيقته على مسرح يدمج الصوت بالحركة على لسان شخصيات تكمل المشهد الكاريكاتوري وبحضرة جمهور مهدد بكبوات لاينهض بعدها وفيروسات تتمرد على المصل واللقاح ليفقد مناعته بعد العرض ويرضى بأنصاف الحلول وأنصاف الحقائق على أمل أن يعيش بنصف مشلول يبحث عن أعمى يسعى به بنصف عينه ليتجنب الحفر والمارة.
ما لهم يحاولون إقناع هذا الحبر الأسود وإصبعه المبتور وهو في ذروة تعبه وإحباطه وعزلته بأن ما تبقى له في هذا الزمن هو ذلك الهامش الأحمر الذي لم يعد يؤمن إلا ببلع حبوب منع التفكير ليشمل هذا التدجين أيضاً اللسان والقلم والإصبع على يد حاضنة تكرس لثقافة مسلوبة ونسل محدود. وقدرهما التنكير مثل قدر بعض الكلمات العربية التي لا تقبل التعريف ولو أضيفت إلى عجائب الدنيا السبع، وبكل أسف رغم كل ما يقال عن التجديد والتشجيع في الدماء الثقافية إلا أن هناك ما يشبه المافيات التي تهيمن على كل شيء لتبرز في الأمة ثقافة الأوحد الذي لا يقبل التنازل عن صدارته بسبب مقياس جيني يتناسل وراثياً بطريقة أحادية، لأنه وحدة تزوج الحقيقة وأنجب منها ذلك المثقف الأوحد ولم يدرك أنه حول الماء الجاري إلى مدجنة لتفريخ الطحالب الآسنة والعفن الثقافي والسراخس السياسية التي حكمت على الأدباء من هم أمثال الجواهري والبياتي والحيدري ونازك الملائكة والنواب بالمنافي، وعدَّتْ حمورابي ثروة وطنية، وحمورابي حسبما ذكرت صحيفة الرأي الأردنية حصان أصيل، كان يملكه عدي بن صدام، وقد اختفى بعد اندلاع الفوضى في بغداد وعقب سقوطها، فجاء ثلاثة شبان عراقيين من أصحاب عدي إلى عمان بحثاً عن حمورابي، لأنه الأشهر في سباقات الجري، وقالت الصحيفة إن الشبان العراقيين قالوا إن حمورابي ثروة وطنية لا يجوز التفريط بها.صدقا إن واقعاً، ممسوخاً متروع الثقافة قد ينتهي بنا إلى عالم بلا قلب حينما تنفى هذه الثروات الوطنية الحقيقية، وتستبدل كتابة مذكرات المنافي ودهاليز السجون وطرق الهروب، وتجهم وجه السجان بكتابة الشعر والروايات الحالمة، وترسم للأجيال القادمة صور تطور الزنزانات ووسائل التعذيب على يد جلاد لازال يؤمن في عصر الذرة ان الكرة الأرضية لا تدور إلا إذا حركها بإصبعه، وينطلق في تفكيره من نظريات بدائية يدرك فشل نتائجها من هم قبل عصر جاليليو.. عندما يكرس ثقافة العنف والاستبداد في الشعبة الخامسة وسجن أبي غريب الذي شهد إعدام مئات الآلاف من الشعب العراقي، وقد صرح أحد العاملين فيه أن حفلات الإعدام تنفذ مرتين في الاسبوع وتتم في ساعات الفجر الأولى، تلك الساعات التي كتب الأدباء فيها قصائدهم ورواياتهم على ألحان العصافير وهم يحتفلون بحضور الشمس ووداع الحر نكاية بالفجر وانتقاماً من القمر.
وليت ذلك المهيب الركن تذكر موقف الجنرال ديجول عندما عاد إلى فرنسا، فأمر في أول عمل له بإلقاء قصيدة إيلوار عن الحرية من طائرات تحلق فوق باريس، واعترف في لحظة إنسانية أن أوروبا امتلأت بعشرات الملايين من القتلى، لأنها لم تعد أمة شاعرة، بل إنه أعطى أوامره أن يسمح للشعراء بالدخول عليه في أي وقت، ولا يقل موقف ونستون تشرشل وستالين عن موقفه عندما افتخر تشرشل أمام العالم بأنه من البلد الذي أنجب شكسبير، واستعان ستالين بقبر الروائي ديستويفسكي كي يثير الحمية في نفوس الروس عندما اقترب الألمان من قبره.
فما هذا الأسلوب الفج المؤمن بتوريث أي شيء لا يورث، وما هذه الطريقة الشاذة المؤمنة بأن المولود الفاشل يولد مفكراً وسياسياً وأديباً ومسؤولاً مثل نموذج المهيب وابنه في زمن مبتلى بنفوذ حقيقي للباترياركيات المزيفة التي لا تطيق زفيراً في الكون غير زفيرها، ولا تسمع صوتاً إلا من أبواقها بعبقرية الشر وفلسفة الجريمة على طريقة المريكز دوساد الذي تنسب إليه السادية بوصفها شذوذاً نفسياً وشهوة سوداء للتلذذ بتعذيب الآخرين بمخلب يقطر دماً هو ذات المخلب الذي تلطخ بدم البلبل والنورس والشحرور، وهو ذات الإصبع في تلك اليد التي سرقت الشهد من نحل لم يصنعه للبشر، وسرقت البيض من طيور لم تبضه للناس.
لقد بتر ذلك الطغيان إصبع فكتور جارا الذي ظل عقوداً عدة رمزاً عالمياً للقهر والقمع والاضطهاد الفظيع الذي عانى منه الشعب التشيلي تحت حكم أوغستو بينوشيه الدكتاتوري، ولم ييأس إذ كتب الإبداع بحجم المعاناة الإنسانية التي لا يدرك كارثتها خيال ولا يشعر بألمها إحساس، وكان اللحن الفكتوري يرشح من كل مسامات الجسد لتبقى أناشيده الاجتماعية (الحق في أن نحيا بسلام) و(مازلت أذكرك يا آماندا) تحظى بشعبية واسعة في العالم الذي لا ينسى كيف وصف في أغنيته الختامية التي كتبها أثناء سجنه في استاد تشيلي الهلع الذي استولى عليه لمشاهدته تعذيب السجناء الذين حاول بعضهم الانتحار، وبعد ذلك أكملت أرملته جوان جارا قصته للبشرية في كتابها (فيكتور أغنية لم تكتمل).
ونجح الروائي الألماني ريمارك بإصبع واحدة عندما اخترق الحدود وعاد من المنفى على أجنحة الكلمات الوطنية الصادقة مثلما نجح إصبع يانيس ريتسوس الذي كان يكتب به قصائده ويزرعها في زجاجات ويغمرها بالتراب لتنبت في الربيع القادم ليعطي مثالاً على جهاد الإصبع الذي يحتشد بكل قواه ليسهم في رسم لوحة الإنسانية وبخاصة في زمن أصبح الكون فيه غرفة واحدة وإذا لم تفتح نوافذها على الشمس لتحولت ذرة الاكسجين فيها إلى ملايين الذرات من ثاني أكسيد الكربون.
أيها السادة: الكاتب الذي ردد مع أبي تمام في النصر ذات يوم قوله:
(السيف أصدق أنباء من الكتب) يدرك أيضاً ان الإصبع المبتور في الهزيمة لا يصلح للزناد ولا للكتابة وسيكتفي بلسان ينوب عنه في كلمة التوحيد والشهادة وعزاء إصبعه ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه دميت إصبعه في حفر الخندق فقال:
ما أنت إلا إصبع دميت
وفي سبيل الله ما لقيت
|
والله من وراء القصد.
|