لجدلية الاختلاف في تراثنا التليد موقع قدم قديم وراسخ وعتيد، ومن الأدلة على ذلك قول العرب: «لولا الوئام لهلك الأنام»، والوئام هنا بمعنى الاتفاق.. واشتقاقاً يصح القول ان من ضمن أهم أسباب عدم اختلاف اوائلنا فيما بينهم تتمثل في انهم اتفقوا على حتمية الاختلاف واعترفوا بحقيقته.
** وبدهيا القول ان الاعتراف بحتمية الاختلاف يمثل الخطوة الأولى والأهم نحو تنظيمه: ولنا في الغرب أجلى مثال على ذلك من حيث إن مفهوم (تنظيم الاختلاف: organization of Diversity) يحتل قمة الأطر الفكرية للعديد من المدارس النظرية لا في الدراسات السوسيولوجية فحسب بل أيضا في المجالات النفسية والإدارية والسياسية والتي تشيع في غالب دوائر ومناحي الفكر والأكاديميا في العالم الغربي.
** وتطبيقا لمضامين ما سبق على الحالة الراهنة للعرب يتوجب الاشارة إلى الحقيقة الواضحة للعيان (المتبصرة) والمتمثلة بعجز الثقافة العربية عن امداد أفرادها بالمؤونة اللازمة للتعامل الأنسب مع المواقف الحياتية التي يخيم على أجوائها (الاختلاف).
** ولا شك في أن من أسباب قصور الثقافة العربية في التعامل الناجح مع الاختلاف ما يتمثل في سيادة الوهم إلى حد القناعة ب (الاتفاق المطلق) والانضواء التام تحت مظلة ثقافية واحدة لا تباين بين عناصرها ولا اختلاف بين مقوماتها. فبسبب هذا الوهم ذاته تجزأت- بارادتها- الثقافة بل وانكمشت إلى درجة التشرذم وما ذلك إلا لكونها سلبت ذاتها من اهم سبل ومقومات ووسائل الثراء والإثراء وذلك هو: الاعتراف بحقيقة التنوع والاقرار بحتمية الاختلافات.
** فاتفاق الغربيين على حقيقة اختلاف مشاربهم وعقائدهم وتنوع مصادر وروافد ثقافاتهم وتعدد سلالاتهم واختلاف أعراقهم هو ما جعلهم في الحقيقة يدركون أولا أهمية الاعتراف بأن لديهم معضلة حياتية خطيرة مما دفع بهم -ثانيا- إلى ادراك أهمية المبادرة لإيجاد علاجاتها الناجعة، الأمر الذي دفع بهم - ثالثا- إلى السعي نحو تنظيم اختلافاتهم وفق منهجية علمية وعملية وواقعية. فاعترافهم ابتداء بأن اختلافهم ليس إلا مسلمة من مسلمات وجودهم جنبهم من مغبات الوقوع في خندق توهم (الانصهار التام) فمنحوا الشخصية الفردية حقوقها والزموها بواجباتها على نحو جعلها قادرة على أن يعيش مع ذاتها ومع الآخرين بنظام وتناغم ووئام وانسجام.
** في المقابل، فعقلية (بلاد العرب أوطاني..) .. أو توهم التوحد أو التشابه التام عربيا أدى إلى اهمال تنمية الشخصية الفردية مما جعلها إلى الغوغائية أقرب منها إلى العقلانية بمجرد تعرضها لأي مثير أو ظرف طارىء..
** بكل اختصار تنظيم الاختلاف يتعين أولا بمنح (المُختلَف) عليه حق التواجد من خلال الاتفاق على حتمية وجوده.. كما انه يتعين أيضا بمنح المُتفَق عليه حق الاختلاف عليه ولا سيما حين يكون ذلك في مصلحة الوطن.
** اللهم امنحنا البصيرة النافذة لكي نعترف باختلافاتنا الحتمية وارزقنا الحكمة اللازمة لنتفق على ما اختلفنا عليه منها.
|