قال المأمون لجلسائه يوماً: لا تضمروا لنا في قلوبكم سوءاً، وتحضرون به الى مجالسنا، فإننا نرى أثر ذلكم في نظرات عيونكم. كلمة رجلٍ له عقل راجح وبصيرة بالأمور، وخبرة بأحوال الناس كوَّنها بتجاربه الطويلة في التعامل معهم، إنها تشير الى أثر باطن الانسان على ظاهره أثراً لا يخفى على المتأمِّل صاحب الخبرة والفراسة. أليس القلب هو المضغة التي صوَّرت لنا كلمات الرسول عليه الصلاة والسلام أهميتها وأثرها العميق على باقي أعضاء الجسد؟، ألم ينبِّه الرسول صلى الله عليه وسلم الى أهمية هذه المضغة بقوله البليغ:«إنَّ في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي (القلب)»؟ هنا يظهر لنا الأثر العميق للصفاء والنقاء الذي يملأ قلب الإنسان، ومشاعره في ملامح وجهه، وسلوكه، ونظرات عينيه، وإشارات يديه، وفي جلسته ووقفته. إذا صفت النفس من الداخل، وكان القلب نقيّاً من أغراض الهوى والرغبة والحقد والبغضاء، صَفَت حياة الانسان، واستقام تفكيره، واستقرت نفسه، وأشرقت أنوار بشاشته على ملامح وجهه، ورأى الناس اشعاعاً جميلا لذلك الصفاء والنقاء يجعلهم أكثر حباً لصاحبه، وأكبر تقديراً له.
«إنما الأعمال بالنيات»، هكذا بهذا الحصْر الذي تفيده «إنَّما» تصبح النية المتعلِّقة بقلب الانسان وسريرته وضميره هي الأساس في صفاء النفس ونقائها، وفي كدرها وشقائها، وتصبح هذه النية مقياساً لقبول عمل الإنسان أو رفضه عند ربه عزَّ وجل.
ولعل هذا الأثر العميق لسريرة الانسان هو الذي يجعلنا نشعر - غالبا - بالارتياح لرؤية شخص لا نعرفه، وعدم الارتياح لرؤية شخص آخر لا نعرفه، فإن البحث عن حالة كل منهما سيؤكد لنا - في الغالب - صدق إحساسنا في الحالتين، وكم من مرَّة تعرَّض فيها أحدنا للقاء شخص أو التعامل معه، وشعر بالارتياح له، ثم أكدت التجارب أن سريرة ذلك الانسان السليمة هي التي أشعرتنا بذلك الارتياح، وكم من مرَّة شعر أحدنا بعدم الارتياح لشخص، ثم مضى في التعامل معه قُدماً، وحدث ذات يوم موقفٌ سلبي منه، يجعلنا نتذكر في حينها «ذلك الشعور بعدم الارتياح له» منذ أن بدأنا اللقاء به. ولذلك كان صفاء نفس الانسان من الداخل، وكان نقاء قلبه من أهم الأسباب لسعادته في الدنيا، وسعادته في الآخرة إن كان مؤمنا بربه عابداً له، وكان - أيضاً - من العوامل التي يتحقق بها النجاح والرفعة والمكانة السامية بين البشر، وقد ورد في الحديث الصحيح ان نقاء القلب وصفاءه وسلامته من الحقد ونية الخداع والغدر سببٌ مباشر في دخول الجنة، فقد بشَّر الرسول صلى الله عليه وسلم رجلا من أصحابه بالجنة، وحينما تابعه عبدالله بن عمرو بن العاص ليعرف السبب في هذه البشارة وجده يعيش حياة معتادة يؤدِّي فيها فرائض الاسلام الكبرى، وليس له من النوافل ما يمكن أن يكون متفوِّقاً به على سواه من عُبَّاد الصحابة وزُهَّادهم ولكنَّ السبب اتضح فيما بعد ألا وهو «الصفاء والنقاء» حيث أكد ذلك الرجل - رضي الله عنه - أنه لا يبيت وفي قلبه حقد على مسلم. يا لها من صفة يمكن ان نضعها في عداد «السهل الممتنع» من صفات البشر.
كن صافيَ النفس نقيَّ القلب، سليم الصدر تفتح لنفسك آفاقاً فسيحة من السعادة والحب والخير والنجاح والفلاح في الدنيا والآخرة.
تأكد أنَّ ما تخفيه في نفسك هو الذي سيحدد مسيرتك في الحياة، وأن الناس يشعرون بحواسهم الخاصة بما في داخلك، وأنَّ انقطاعاً في التفاعل معك - شعورياً - سيكون مسيطراً على علاقتهم بك ما دام قلبك مسكونا بشعور غير مستقيم، وإحساس غير سليم.
إذا صفا قلب الانسان صفت حياته، وأشرقت كلماته، وتألَّقت نظراته، وأورقت ابتساماته، وتلك هي السعادة التي نتوق اليها جميعاً.
إشارة:
لغة الوفاء شريفة كلماتها
فيها عن الحب الأصيل.. بيانُ
|
|