بعد تواصل المطاردات واكتشاف الخلايا النائمة والمتململة والناشطة في أطراف البلاد وفي حدقات العيون وسويداء القلوب أرض القداسات، ووقع التفجيرات المحكمة التخطيط والرهيبة التنفيذ، عاج المفجوعون والذاهلون من هول الصدمة إلى الاستنكار والشجب والتجريم، وعجت أسأل عن الفواعل والمفاعيل، وعن المواجهات والمعالجات، وعن مستوى أفراد الأمن وآلياتهم، وعن دور المواطن التوعوي والتعقبي الغائب أو المتخاذل أو المتردد أو الفاعل على استحياء، عجت أسأل عن: المفعول به، وفيه، ولأجله، وعن الفاعل، ونائبه: الظاهر والمضمر.
وعن مدى العلاقة الطردية أو العكسية بين الفاعل والمفعول فيه: (المجرم) و (الوطن)، ومن وراء الفعل: تمويلاً وتسهيلاً وتمويهاً؟ وهل الفعل مقاومة وطنية، كما يتصور السذج والحاقدون؟ أو هو استعجال للإصلاح، كما يشيع المغفلون؟ أو هو لعبة خطيرة اتخذت لنفسها أشكالاً وألواناً: من حروب أهلية، إلى مناوشات حدودية، إلى صدام طائفي، إلى احتلال سافر، وإلى تفجير مدمر، أو هو لعبة ارتدادية ضد اللاعب الأكبر خارج أرضه، أو أن ذلك رسالة ثقيلة المضمون ضد صمود البلاد وأهلها، لتركيعها، أو إزاحتها عن طريق الحلول الاستسلامية، وكأن خارطة العالم الجديدة ليس فيها متسع لأناس يقولون: ربنا الله، ويصرون على حقوق عالمهم المنتهك من كل جانب.
وكل هذه التخمينات لمجرد أن التفجير العشوائي يحصل في بلد ليست لديه قابلية للإرهاب، وليس أهله من شرار الخلق، فهم لا يعرفون القتل الهمجي، ولا المقابر الجماعية، ولم يألفوا توارث السلطة عن طريق الثورات الدموية والتصفيات الجسدية والانقلابات البيضاء المدفوعة الثمن للساكت والداعم. ومع كل هذا فقد ملئت أرضهم بالسلاح الفتاك، وشاعت في أوساطهم الأفكار المنحرفة والانتماءات المتعددة والرؤى والتصورات المتناحرة، ومما زاد الحال سوءاً تسابق القنواتيين على تداول شؤونهم الخاصة في الغياب والحضور، وكأنهم من (بني تيم)، وتهافت الوُصوليين لتمويل هذا الفضول الممقوت.
وأحسب أن الأمر بعد أن تداعى الفارغون والماكرون والحاقدون على الإثارة والتحريض والفعل التدميري لا يكفي فيه مجرد الاستنكار، ولا المواجهة الهجائية، وديننا وجهنا لذلك. وفي الحديث: )لا تلعنوا الشيطان فإنه يزهو). وطلب منا الكف عن النيل من مقدسات الآخر: (ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدواً بغير علم). والأمة في السلم والحرب والرخاء والشدة مأمورة بإعداد القوة: قوة التقدير والتدبير، والقول السديد، والفعل الرشيد.
ونحن في ظل هذه الظروف العصيبة بحاجة إلى خطة محكمة تطاول الزمن، يقل فيها الكلام المتشنج، ويكثر فيها العمل المحكم، وتشدد فيها وطأة المحاسبة لكل من امتدت يده الآثمة إلى مثمنات الأمة، أو انطلق لسانه في تغذية الفتنة، ودعم عناصرها، ولو عن طريق التلميح، خطة لا تقتصر على المطاردة والمداهمة والتناوش بالألسنة والسلاح.
وإذ يكون الإرهاب ظاهرة تتسم بالثبات والديمومة، فإن مواجهته تختلف عن العرض الزائل، ومكمن الإشكالية يتراوح بين الممارسة الإرهابية والمواجهة غير المتكافئة. وتجاوز الحدث بكل مراراته وويلاته، يمكِّن من التبصر والتروي للمواجهة: الرسمية والشعبية، بعد قراءة الأحداث على كل المستويات، وبعد إحكام الخطط، وفهم الدوافع والأسباب والمصادر. فالذين يحصرون دوافع الإرهاب في الأوضاع المحلية القائمة يصيبون الوطن بما هو أسوء من الإرهاب، والذين يحيلونها على المناهج الدراسية يضربون في فجاج التيه، والذين يحصرونها بالصحوة الإسلامية يقعون في حبائل المتماكرين. وفوق كل ذلك فالذين يوقظون رجال الأمن للمواجهة: ثم يغطون في نوم عميق، تواكلاً لا اتكالاً، لا يختلفون عمن يحرفون الأسباب عن مواضعها.
رجل الأمن وحده في ظروف عصيبة كهذه الظروف التي تعيشها البلاد لا يحقق أدنى حد من المواجهة، نحن في زمن عصيب ومخاضات لا تنتج إلا الأشأم، زمن تحولت فيه لغة الكلام إلى لغة السلام، والشخوص الماثلين إلى أشباح لا تكاد تستبان، إنه زمن مشكل، يتطلب عملاً جماعياً، يستنفر له كل قادر، وتستدعى له كل الخبرات والتجارب في كل بقاع العالم، ويستعان من أجله بكل الممكن، فما بعد الوطن وأمنه من مكرم، ولما نزل ننعم بالأمن، ولا نخشي إلا الله والذئب على الغنم، والخوف من تفاقم الأحداث. ولتفويت الفرصة على المتربصين لابد من حالة طوارئ، توضع فيها خطة أممية لا أمنية، ينفر فيها كل الناس، وتوجه لها كل الجهود، تشكل لجان، وتنشأ مديرية خاصة بالمكافحة، وتقام أسابيع توعوية، في كل الحقول، ومن كل الحقول المعرفية والفكرية والثقافية والتربوية والتعليمية، ويزج في أتون المواجهة كل مقتدر، فهناك تشبع فكري منحرف، وتشبع إرهابي عنيف وسلاح فتاك، ولا تواجه هذه الظروف إلا بالنفور الجماعي:
- الأستاذ في فصله.
- والدكتور في قاعته.
- والإمام في محرابه.
- والخطيب على منبره.
- والعالم بين كتبه.
- والمرأة في بيتها.
- والأب بين أولاده.
- والإعلامي في صحيفته أو إذاعته أو قناته.
- والتاجر في متجره.
- والمزارع في مزرعته.
- والبدوي في صحرائه.
- وكل عاقل رشيد يملك القدرة على القول أو الفعل.
فما عاد الوقت وقت رسميات، ولا تسلسل سلطات، ولا فروض كفايات، المسألة مسألة حياة أو موت، فالأمة مستهدفة في عقيدتها ومقدراتها ومكتسباتها وإنسانها وأمنها، ومن أحال إلى المعارضة أو إلى التنازع على السلطة فقد وهم.
وكيف نتواكل والبلاد التي تنفست فيها الفتنة، وفحت فيها الأفاعي، ليست بلدا متخلفا فقيرا منهكا، يعيش أهله تحت الشجر ويشربون الماء الكدر، ولا يجدون ما يقيم الأود ولا ما يستر العورة، إنه بلد حضاري، توغل في المدنية، حتى فاق أهلها، وتواصل مع العالم حتى زويت له الأرض، له قلاعه الصناعية، ومحافله العلمية، ومؤسساته الدستورية والتشريعية والشورية، وبنيته التحتية، وإمكانياته الاقتصادية التي تتحلب عليها أفواه الجشعين الحاقدين، بلاد ركضت في فجاج الحضارة والمدنية لا يمكن أن تعود إلى ما كانت عليه من قبل.
وإذا كنا نفزع إلى المساجد للصلاة والقنوت، ونصعد على المنابر للشجب والاستنكار والدعاء بالويل والثبور كلما خر مسلم صريعاً في (الشيشان) أو في (أفغانستان) أو في (كشمير) أو في (الفلبين) فإننا أحوج ما نكون إلى اللجوء إلى الله والإلحاح بالدعاء والتركيز على التوعية مما نحن فيه، فالنوازل تحدو بالأمة إلى القنوت، وكم قنتنا من أجل نازلة ألمت بالمشرق أو المغرب الإسلامي، وهل بعد ازهاق الأرواح المعصومة أو الآمنة من كارثة تستحق أن ننادي لها ب:- (الصلاة جامعة)، وهل بعد الوطن المطعون في الخاصرة من فتنة. ومن واجب كل مواطن يعي واقعه وأبعاد واقعه: دينيا وسياسيا واقتصاديا واجتماعيا أن يلح بالتساؤل، وأن يتجاوز الأنماط والسوائد، فالوقاعات غير المتوقعة لا يكفي فيها التعامل (الروتيني). والبحث عن تفاصيل الحدث، يسبقه البحث عن معقولية الحدث، بمعنى: هل من المتوقع وفق أوضاعنا القائمة أن يحصل في أرضنا مثلما هو حاصل؟. كلنا مقصرون، وكلنا خطاؤون، ونحن أحوج إلى الإصلاح والتغيير والاستخارة والاستشارة في كل صغيرة وكبيرة، وما من شيء من ذلك يبرر أن يصدح صوت أو تعلو يد، فضلاً عن أن تراق قطرة دم.
البلاد ليست مهيأة لما حصل، وأهلها لم يألفوا هذه الظواهر، فلقد عشنا الأمن والاستقرار والرخاء، وإذا بدرت خطيئة حسمت بين عشية وضحاها، وحين لا تكون الأسباب مرتبطة بالمسبب، يتجاوز التساؤل الحدث إلى امكانية وقوعه. لقد وقعت التفجيرات، وهلك من هلك دون بينة، ولم يعد بالإمكان أن نقول للمتوفين والمصابين: (أيديكم أوكت وأفواهكم نفخت)، ذلك أنهم لم يكونوا أبرياء وحسب، وإنما هم في بلد آمن مستقر - وسيظل إن شاء الله- يوفر الكرامة والحرية لكل قادم، بل أكاد أقول: إننا نحن الضيوف والوافد رب المنزل. وحين لا يخطر على بال أحد أن يتعرض لمثل ما تعرض له، يتجاوز التساؤل الحدث من حيث وقوعه إلى الحدث من حيث أسبابه ودواعيه، فلم يعد البحث عمن فجر، وإنما البحث عن الأسباب والكيفيات ولحساب من. وفوق كل ذلك: - كيف استطاع المجرم أن يتوفر على الأجواء الملائمة للفعل النكرة؟ وكيف وصلت هذه الأرتال من الأسلحة؟.
إن هناك خللاً، ومن أوجب الواجبات أن نتجاوز الإدعاء والاتكالية، وأن نعترف بتقصيرنا مواطنين ومسؤولين، وعلينا أن نملك الشجاعة في الاعتراف، فكل مريض ينكر مرضه لا يمكن أن يشفى، وكل جاهل ينكر جهله لا يمكن أن يتعلم، وكل عاجز ينكر عجزه لا يمكن أن يحقق شيئاً. ليس عيباً أن نخطئ، وإنما العيب أن ننكر الخطأ، أو أن نصر عليه، البلاد مزروعة بالإرهابيين، ومليئة بأسلحة الدمار، فكيف غزيت الأرض والأدمغة؟ هل واطأ المواطن أو غفل المسؤول؟ لقد وحد الملك عبدالعزيز البلاد، وليست له وزارة دفاع، وزرع الأمن وليست له وزارة داخلية، كان المواطن جنديه ورجل أمنه، وهل من المعقول أن يفرط عاقل رشيد بهذه المنجزات؟ دعونا نقول بكل تجرد: إشكالية البلاد من أبنائها المقتدرين الذين غفلوا.
نعم أوضاع العالم اليوم غيرها بالأمس، والفتن من حولنا تعصف بالحيوات والمثمنات، ولابد - والحالة تلك- أن نصاب بدخنها، ولكن الدخن بدأ يتحول إلى ضرام، والأحداث المتلاطمة من حولنا كشفت عن ثغرات، ومن الخير لنا أن نستبق إليها، لسدها قبل أن يتهافت من خلالها المفسدون في الأرض، البلد بلد الجميع، والأمن أمن الجميع، ومن وكل أمره المصيري إلى غيره فوت على نفسه أهم الفرص، لقد حان الوقت للنفور كافة بالأقلام والألسنة والأفكار والخبرات.
وعلى الذين أنشأوا الصناديق والجمعيات والمؤسسات للأعمال الخيرية في الداخل والخارج أن ينشئوا مثلها لمكافحة الإرهاب، وتخليص البلاد من وباء قادم، قد يحولنا إلى متلقين لإعانات الغير، ومحتاجين إلى المؤسسات الإنسانية، وما لم يضع المواطن يده مع السلطة في المواجهة تنامت الفتن، وما تحت أديم السماء من قوي يراهن على السلامة.
إن ما نشهده من أحداث توجب على كل مقتدر أن يوظف كل طاقاته، وألا ينتظر حتى يطلب منه الإسهام، فالوضع يتطلب أن يكون كل مقتدر رجل أمن يتقدم إلى المسؤولين بالرؤى والتصورات والأساليب والمعلومات. وأوجب الواجبات أخذ الحذر في كل سوق وبيت ومكتب ومسجد ومدرسة. وعلى كل الخطباء وكل العلماء وكل المعلمين أن يواجهوا الأحداث بلسان عربي مبين، لا تورية فيه ولا كناية ولا تلميحا. انتهت فترات التردد، وانتهت فسح التأويل والتبرير والتعذير، وجاءت لحظة ( إن لم تكن معي فأنت ضدي).هذا لسان الوطن، فلمن نكل أمره، إلى عدو يتربص به، أو إلى جشع يتلصص على خيراته، إن لدينا قبلة الموحدين ومعبود الجشعين الأسودين: الكعبة والبترول.
وإذا فقد الأمن فُقد كل شيء، بل ساء كل شيء، إنه قضية المخدرة في بيتها، والطالب في مدرسته، والمواطن في سوقه، والطفل في حضن أمه، والوافد في عمله، والظاعن في صحرائه، الأمن حق مشروع كالماء والهواء، فإذا بادرنا إلى تصفية الماء من الكدر، وتنقية الهواء من التلوث، وجب أن نحفظ الأمن من نواقضه، وإذا اختل الأمن مس الضر كل من أقلته أرض الوطن وأظلته سماؤه. والأمن ليس قضية تخص وزارة الداخلية ومكافحي الشغب وقوة الطوارئ والمباحث الذين أبلوا بلاءً حسناً، الأمن حق لكل مواطن ومسؤولية كل مواطن، وحين يختل ترخص بعده الأموال والأنفس والثمرات، وكيف لا ترخص وفي (باب الفتن)، أن الرجل يمر بالقبر ويتمنى أن يكون مكان صاحبه، لما يراه ويعيشه من أهوال.
وعلى العقلاء أن يلتفوا حول المسؤولين للنهوض بالمسؤولية المشتركة، فالمسألة لم تعد بحيث ننام ملء جفوننا لمجرد أن رجل الأمن يسهر على راحتنا وأمننا.
الأحداث تحولت من دخان إلى ضرام، ولما يزل المواطن في مأمن، ولكنه أمن الخائف، وعلى المسؤولين لإحكام المواجهة وترشيدها تجنيد كل مقتدر من طلاب الجامعات وخريجيها للمتابعة والمكافحة والتحري والتوعية، ورصد التحركات المشبوهة وتزويد مراكز المعلومات الأمنية بما يصلون إليه من معلومات، لا لمحاصرة المفسدين في الأرض، ولكن لاجتثاثهم.
السؤال الأكثر إلحاحاً واستحالةً وتعقيداً: من يكون هؤلاء؟ وماذا يريدون؟ ومن هم خصومهم؟ وإلى أي شرعة أو منهاج يرجعون؟ وإلى أي قانون يحتكمون؟ لو رأيناهم أو سمعناهم أو عرفناهم، ولو من وراء حجاب، لكان أن حسمنا أمرنا معهم، ولكننا لما نزل مع أشباحهم في أمر مريج.
|