Saturday 15th november,2003 11370العدد السبت 20 ,رمضان 1424

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

دفق قلم دفق قلم
الوهم القاتل
عبدالرحمن صالح العشماوي

أسطورة قديمة تقول: كانت مجموعة من الثيران -جمع «ثَور»- تعيش في حديقة جميلة خضراء، يتسلسل في وسطها نهرٌ صغير في صفاء ونقاء، تحيط به الأزاهير من كل نوع ولون لترسم بألوانها البديعة مع خضرة الأرض وزرقة النهر، وغصون الأشجار السامقة لوحةً من الطبيعة ليس لها نظير، وكانت الثيران تسعد بالحياة في تلك الحديقة على مدى سنواتٍ طويلة، يذهب جيلٌ منها ويأتي جيل، وتتوارث الأجيال حياة هانئةً هادئة، لا ينغِّصها إلا ما ينغِّص أهل الدنيا عادةً من المرض أو الموت، ولا يؤرِّقها في حديقة الثيران إلا ما يحدث من اختيار أعدادٍ منها بين الحين والآخر للذَّبح على يد «الجزَّارين» طعاماً للناس، إنَّه القضاء المبرم الذي لا مفرَّ منه، عوَّدت عليه الثيران أنفسها، ورضيت به، ولم يمنعها من الاستمتاع بما في حديقتها من المراعي الخصبة، والمناظر الخلاَّبة، والتآلف بينها، والتكاتف بين قطعانها التي تتجاوز أعدادها الآلاف، وفي صبيحة يومٍ ربيعي جميل، وكانت الشمس قد برزت في أجمل منظرٍ تنشر أشعتها على تلك الحديقة الجميلة لتقيم بلمعانها على قطرات الندى، وبانعكاس أشعتها على سطح الماء الجاري في النهر الصافي، مهرجاناً بديعاً يذهب بالألباب، ويأسر القلوب.
في صبيحة ذلك اليوم الربيعي الجميل تجمَّعت قطعان الثيران على عادتها حول النهر الصغير، مستمتعة بما أنعم الله عليها من الخير الوفير، راتعةً في مساحات شاسعة من المراعي الخضراء، شاربةً من تلك المياه ذات الصفاء والنقاء، مأخوذة بما تراه من لمعان أشعة الشمس على قطرات الندى وماء النهر الجاري، وإنها لفي حالة من الأنس ببعضها، والسعادة التي ليس لها نظير، إذا بها تسمع أصواتاً وجَلَبةً تأتيها من أطراف الحديقة، ما زالت تقترب حتى كادت تُصِمُّ الآذان، والتفتت القطعان إلى مصدر تلك الجلبة فرأت ما بهرها من قطيع يركض ويصرخ، ويرفع لافتةً كبيرةً تدعو قطعان الثيران إلى الحريَّة، وتناديها للقيام بثورة عارمة على البشر الذين يخدِّرونها بالمراعي الجميلة، والنهر الجاري، وإنما يفعلون ذلك لأجل مصلحتهم، لتوفير مصادر اللحوم من هذه القطعان المخدوعة، واتجهت الأنظار إلى المكان المرتفع الذي وقف عليه ذلك القطيع وأخذ يردد: لقد آن الأوان للخروج من هذا السجن الكبير المسمَّى حديقة غنَّاء، وما هو إلا خدعة كبيرة لهذه الجموع الغفيرة، ووقف ثورٌ سمين ضخم الجسم على نَشَز من الأرض ونادى: انظروا إلى ذلك المكان وأشار بيده الى جهةٍ من الجهات ألا ترون ذلك الحائط الكبير إنه يحجب عنكم الحريَّة التي تفتقدونها، فمن كانت له كرامة، وعزّةٌ فلينطلق مع الأحرار لتحطيم ذلك الحائط والدخول الى عالم الحرية الذي وراءَه.
وهاجت القطعان وماجت، وقد أعجبها هذا المنطق الجديد، وأثَّرت فيها هذه الدعوة الصريحة إلى دخول عالم الحرية المطلقة، وصرخت بصوت واحد: هيَّا الى عالم الحرية.
ووقف قطيع من كبارهم يتأمل ما يحدث بأسف وأسى، وصرخ ثور كبير عركته تجارب الحياة قائلاً: ويحكم يا قوم، والله ما هذه بدعوة خير ولا رشاد، وما هي إلا بطر بالنعمة، وإني لأخشى أن تجدوا فيما تقدمون عليه الهلاك، ولكن هذه النداءات ضاعت في ذلك الصخب الهادر.
وانطلقت القطعان إلى الحائط وهاجمته بعنفٍ وقسوة تضربه بقرونها العاتية حتى هدمته وانطلقت إلى ما وراءه مردِّدة أناشيد النصر، ولما تجمَّعت في ذلك المكان، وهدأ صخبها، وانجلى الغبار عنها، أصابها الذُّعْر والهلع حين رأت السكاكين الضخمة والكلاليب المعلَّقة واللوحة الكبيرة التي كتب عليها «المسلخ»، وحاولت الرجوع إلى حديقتها ولكنَّ الحائط الذي اقتحمته سرعان ما عاد حاجزاً بينها وبين الحديقة، وبقيت في مكانها مستسلمة لسكاكين الجزَّارين.
إشارة:


رُبَّ وهم يصوِّر الشوك زهراً
ويريك العدوَّ مثل الصديقِ

 

[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-janirah Corporation. All rights reserved