بين الأمن والإيمان تفاعل سنني كوني هو من أقدار الله الماضية في عباده سواء على المستوى الشخصي أو الاجتماعي. ومن الأحداث والأشخاص والمناشط ما تكون أدوات أم للمجتمع ترقى برقيهم وتتجاوب البيئة مع تطلعاتهم ذلك أن إيمانهم هو الذي يحدوهم لتفعيل معنى الأمن الاجتماعي.
وحينما يتجسد الإيمان الحق في النفس تستجيب له أنسجة المجتمع المختلفة فتأتي طائعة غير مكرهة مسوقة بتقدير الله الذي قدر في الكون مقاديرها لتستجيب لأمره حينما تتكامل العناصر التي أراد الله أن تنتج نبتاً طيباً {والًبّلّدٍ الطَّيٌَبٍ يّخًرٍجٍ نّبّاتٍهٍ بٌإذًنٌ رّبٌَهٌ والَّذٌي خّبٍثّ لا يّخًرٍجٍ إلاَّ نّكٌدْا} إن النفس المؤمنة بالله يستحيل أن تكون أداة هدم وإفساد ذلك أن هذه سمة الذين غضب الله عليهم فجعلهم أدوات إفساد: {ويّسًعّوًنّ فٌي الأّرًضٌ فّسّادْا واللَّهٍ لا يٍحٌبٍَ المٍفًسٌدٌينّ }
وفي الحديث: «المؤمن لا يهتك» وليس ذلك من طبيعته ذلك أن الإيمان مرتبط بالأمان الداخلي «النفسي» والذي بدوره ينعكس على الخارجي «المجتمعي» وبالتالي فمع انتشار ظاهرة الأمن يمكن القول بأن لدى الناس قدراً من الإيمان رفيع أثر في فسيولوجية المجتمع فبعث الاطمئنان في أنسجته والعكس صحيح.
ومن هنا يصح القول بأن من يهتك أعراض المسلمين ويروعهم بأي وسيلة كانت إنما يعكس ذلك خللاً في مفهوم إيمانه الذي من نتائجه ظهور سلوكياته المعوجة.
وبذلك يتأكد بأن من روعوا عباد الله وسفكوا دماءهم في بلاد الحرمين بل في حرم الله الآمن يعانون خللاً في تصورهم لمعنى الإيمان فلربما يجرِّمون الناس بمعصية ويخرجون عباد الله عن دين الله بالظن ويحجِّرون دين الله الذي قدر الله أن يكون يسراً فشددوا فشدد الله عليهم وجنوا على أنفسهم وعلى دينهم وعلى أمتهم وليس بعد سفك دمائهم بأيديهم من اعتذار.
ولما كان رد حكم التكفير إلى الله ورسوله - كما هي فتوى كبار العلماء- «لم يجز أن يكفر إلا من دل الكتاب والسنة على كفره دلالة واضحة، فلا يكفي في ذلك مجرد الشبهة والظن.. وإذا كانت الحدود تدرأ بالشبهات مع أن ما يترتب عليها أقل مما يترتب على التكفير، فالتكفير أولى أن يدرأ بالشبهات» .. بل قد ينطق المسلم بكلمة «كفر» لغلبة فرح أو غضب أو نحوهما فلا يكفر بها لعدم القصد كما في قصة الذي قال: «اللهم أنت عبدي وأنا ربك .. أخطأ من شدة الفرح».
ولما لهذا الخلل في المعتقد من مترتبات تستباح فيها الدماء والأعراض والأموال، وتخريب المنشآت، وهتك لحرمات الأمن والاستقرار، فإن هذا الخلل هو جماع الفساد الذي أجمع عامة المسلمين وخاصتهم على حرمته.
ومما يجدر تأمله أن هناك من المسببات لهذه الظواهر السلبية ما يمكن تفسيره بناء على سنة الله الجارية حيث تظهر في المجتمعات من السوءات بقدر تفلتها من حفظ أوامر الله وممارستها. والمعنى أن ما نشهده من ظواهر تقلق راحتنا هي ابتداء من صنع أنفسنا:
{ومّا أّصّابّكٍم مٌَن مٍَصٌيبّةُ فّبٌمّا كّسّبّتً أّيًدٌيكٍمً} وعلى هذا فالأخذ على يد المتلاعبين بأحكام الله سواء بالخروج الفكري الاعتقادي أو العملي.. حيث لا يراعون حرمات الله.. يُعدّ أحد أهم متطلبات تحقيق الأمن والاستقرار الاجتماعي.
وحسبما نفهم فإن تحقيق الأمن على المستوى الاجتماعي لا يكفيه صلاح نسبة من أفراده، إن لم تكن هذه سمته .. أي أن معاني الإصلاح في أفراد المجتمع أعم!.. فتتعالج في ذلك قوى ومقومات الأمن ونقيضها (سننياً) وبالتالي يكتب للناس ما يستحقون، تماماً كما في قصة هلاك الصالحين إذا كثر الخبث.. فلا اعتبار هنا لوجود الصلاح النسبي البسيط مع كثرة الفساد.
وذلك في - ظننا- يعني أن تحقيق الأمن من عدمه لا يعني أنه بيد الأعداء أو يمكن أن يخل به أعداؤنا أو فئة ضالة بيننا.. إنما ذلك كله بأيدينا.. نحن الذين نكتب - بتقدير من الله- لأنفسنا الأمن من عدمه وذلك يعود ابتداء للجهد الذي نبذله لتحقيق ذلك من عدمه.
وإذا كان لنا أن نتدارس شيئاً من المسببات الدنيوية الاجتماعية لمثل هذه الظواهر فيمكن عرض الآتي:
أولاً: أن البيئة القاسية التي يتربى عليها الإنسان بمختلف مظاهرها - في الغالب- تنتج ردود فعل قاسية، وأحياناً تستجيب استجابات غير متوقعة فتولد انفلاتاً في التصور والسلوك الذي لا يراعي ولا يرعى حلاً ولا حرمة.
ثانياً: في مقابل البيئة القاسية تنتج البيئة الساقطة أيضاً أفعالاً شبيهة بسابقتها ولكنها تختلف في النوع حيث تشتد الأولى في الهوى وتنشد الأخرى للشهوة.
ثالثاً: أن سلبية الأصوات المتزنة وعدم تفاعلها مع وتفعيلها في المجتمع تحمل شيئاً من وزر تنامي سلبيات المعتقدات الفكرية والممارسات البدعية والتجاوزات الشرعية.
رابعاً: أن تقديس ما ليس له قداسة وتضييق ما حقه السعة وتحجيم ما حقه التنوع وتوحيد ما يقبل التعدد.. كل ذلك وسائل ممهدة لسلوكيات محتقنة قابلة للاشتعال مع أي ملامسة. تماماً كالأجساد التي لم تر الشمس فاحترقت عند رؤيتها، أو تجمدت عندما افتقدتها!.
خامساً: إن اعتماد طرح الإثارة في القنوات المرئية أو الصحفية أو المنبرية عوضاً عن تنمية الوعي والتأسيس لقيم الأمن والتعامل مع الواقع بعقلانية يفرز أشكالاً من التصرفات العشوائية التي يصعب ضبطها بواقعية.
سادساً: ضعف أو عدم تهيئة قنوات للتعبير السلمي عن الحقوق والواجبات ورد المظالم وحماية الحريات المشروعة كل ذلك يولد مناخاً عاصفا قد يحمل بين طياته أهواء تنذر بمخاطر غير متوقعة.
سابعاً: إن لغة التعالي والاستكبار من أشخاص أو دول كقهر الشعوب أو احتلالها أو استفزازها وتدمير مصالحها كل ذلك يولد من العناصر المضادة ما لا يمكن تصور أثره وأبعاده، والقتل الأعمى لا يولد استسلاماً.. خصوصاً لدى العرب.. فكم قامت حروب لتثأر لامرأة أو حتى لعثرة بين داحس الغبراء.
ثامناً: إذا كان في الفيزياء أن (كل فعل له رد فعل مساوٍ له في القوة ومضاد له في الاتجاه) فإن الاجتماع الإنساني يشهد شبه ذلك!. فالإرهاب لا يولد سلاماً.. بل يقتله.. والعنف لا يولد أمناً بل يلغيه.. وتلك سنن حياتية أن العنف مكروه.. وأن من ينسى يُنسى، ومن يُحب يُحَبَ، ومن يكره يُكره، ومن يُعطي يعطى، ومن يُفسد يَفسدُ، ومن يتجرأ على حرمات الله يقتص منه، ومن لا يوفقه الله لا يفلح.. وهكذا.
وحينما تختل موازين معادلة الحياة الإنسانية بحيث لا يقابل الشيء بما يستحقه سواءً في جانب الحب أو الكره أو الأخذ أو العطاء أو الاقتصاص، أو الشكر على العمل أو الإنكار على السفه والخطأ أو غيرها من معطيات الحياة فإن المعيشة تنزع منها معاني السعادة والبركة والاستمتاع.
أخيراً .. في النفس أن تقول «شتان بين الجهاد والإلحاد» في الأرض.. فالأول مرتبط بالإصلاح والآخر بالإفساد!.. وإسقاط ما حصل من ترويع الآمنين في بلاد الحرمين على المعنى الأول هو من الميل للمعنى الثاني الذي لن يصلح به العباد.. ذلك أن معتقدات الفساد ووسائل الإفساد كتب الله لها - سننياً - ألا تكون صالحة أو مصلحة
{إنَّ اللَّهّ لا يٍصًلٌحٍ عّمّلّ المٍفًسٌدٌينّ } .. ودائماً - سبحانه الله - ما تكون نفوس المفسدين في الأرض - أياً كانوا- عاقبتها خسر.. ليس في الدنيا فقط بل كذلك في الآخرة.
إن الجرم في حق البشرية كبير وبحق دين الله خطير فلا مجال للعواطف المغلوطة، فساحات الجهاد وفضائله لا تخفى على العقلاء، ونفوس المجاهدين الأتقياء لا تخشى دهاليز السجون.. ولم الهرب من المساءلة فقد سجن أكثر علماء الإسلام صيتاً، ولم يقل (يجب ألا أسجن) وسجن مانديلا- من غير ديانة- قرابة الثلاثين سنة «ظلماً» وخرج متوجاً مصلحاً.. فلم نستكثر على النفس أن تُجرح في سبيل الله!!.. إنه المفهوم المعوج لما في «سبيل الله»!!.
إن حرمة دم المسلم أشد عند الله من بيته الحرام.. ولكنها مع خلل الإيمان لم تعن شيئا لمن أزهقوها تماماً كرؤية متطرفي اليهودية والنصرانية.
والمؤمن الحق ليس فتاكاً ولا لغاطاً ولا متسرعاً في حكمه وأخذه ورده..! وما سُطر هنا اجتهاد في النظرة وسعي المصلحة الأمة التي يجب أن تكون يداً واحدة في السلم فضلاً عن أيام الفتن والإرجاف والمخاطر التي تحاصرها من كل جانب.. وبالله التوفيق وهو يهدي السبيل.
* قسم الاجتماع - القصيم
|