لا يمكن لأي إنسان تبرير قتل الأبرياء والأطفال، ولن تجد في أي منظومة أخلاقية مسوغات تشرع نسف منازل في مجمع سكني آمن، إنها روح التمرد والجريمة التي لم تخمد نيرانها في ثقافتنا منذ مئات السنين..، والنفس البشرية المتمردة تحاول دوماً تقديم تبريرات للانشقاق من أجل دوافع سياسية بحتة، والإنسان قد يتمرد إذا عاش في أجواء تهيىء له ذلك، وقد يعلن تمرده على السلطة بالمزايدة في الشعارات وإعلان المواقف السياسية المناوئة لها، ولكن من الجنون أن يتم إعلان تلك المواقف من خلال قتل الناس في منازلهم وهم آمنون، لم تكن تلك الجريمة المروعة إلا إعلان عن عودة روح الجريمة المنظمة إلى مجتمعاتنا، ودعوة إلى البحث عن موضوع الخلل الذي سمح لها بالنمو من جديد في بيئتنا المسالمة.
ضحايا أبرياء ماتوا بسبب فيروس بدائي لا يجد في الحياة لذته، عاشق للموت من أجل الموت، عاجز عن التعبير، وغير قادر عن المواجهة بالتي هي أحسن، يقتل بلا سبب لأنه عاجز عن الحياة، ويفجر بلا رحمة لإنه فاقد للامل، فما الذي أوصله لهذه الحالة اليائسة، ومن أحيا في أحشائه بذرة الجريمة، وهواية القتل، ولذة الانتحار..، وما هو الخلل الذي أصاب المجتمع، فاعاد للحياة نبتة غير سوية لكي تقتل الأطفال، وتدمر الأشجار، وتطرد الأمن من المنازل؟
ولكن قبل ذلك يجب أن نعترف بهدوء اننا منذ قرون وقرون وتاريخنا تفجره بين الحين والآخر حملات سياسية متوارثة، شعارها التكفير وصوتها التفجير، ومنهجها الانقلاب والتغيير الجذري، ويجب أن نواجه أنفسنا بالحقيقة المؤلمة، وهي أننا فشلنا إلى الساعة في وضع حد لتلك النهايات الدموية والمشاهد المأساوية في سيناريوهات البحث عن السلطة، والسبب يكمن في غياب العقول القادرة على تشخيص أمراض المجتمع وما يفكر فيه، فالرأي العام غائب منذ الأزل في تاريخنا الطويل، وتبرز مظاهر ذلك الغياب في أزمنة التغيير، وعندما يبدأ صليل الصراعات في المجتمع، وترتفع أصوات الاحتكاكات في الخفاء، والتي قد تتطور طبيعة الشقاق فيها من زمن إلى آخر، ومن مجتمع إلى آخر إلى أسوأ مراحلها.. مرحلة العنف والقتل والتدمير، كأحد أكثر مظاهر الاستئصال دموية.. والتاريخ علمنا أن تلك النوبات تأتي بصورة دورية، وتأخذ منحنيات لها علاقة بقوانين طبيعة اختلت موازينها.
إن السمة الأساسية لهذه الحركات هو تشريع «القتل والاغتيال» والموت كمبادئ محركة للسياسة، لها جذور في تاريخ المسيحية والإسلام، كما هو الحال في منهج طائفة الحشاشين في الاغتيال، وفي روسيا القرن التاسع عشر مع العدمين وهو حزب سياسي روسي ينكر القيم الأخلاقية الجماعية ويتبنى تحرير الفرد من كل سلطة ومن القيم السائدة، وفي عصر الحقبة النازية الهتلرية، وممارسات الاغتيال السياسي والجماعي في تاريخ الصهيوينة اليهودية الحديث في فلسطين، وفي رواندي وسيراليون.
والمجتمع في زمن الاستقرار مثل الجسد وهو في كامل عافيته يصاب بالتهابات شائعة مثل الأنفلونزا أو نزلات البرد، لا تضعفه، وإنما تزيده قوة، فهي أحد مظاهر الحياة والصحة، ففي هذه الحالة يملك جهاز المناعة زمام المبادرة في جميع أعضاء الجسد، فيطرد ذلك الفيروس بعد أيام، ويمنع آخر من التسلل إلى خلاياه، ويحتاج في احيان أخرى إلى لقاحات ومضادات مهمتها تطوير مناعته، وتحصينه ضد الفيروسات والبكتريا الجديدة.. لكي يبقى الجسد قوياً ومعافى من الأمراض.
ولكن عندما تضعف مناعة الجسد نتيجة لإصابته بفيروس خطير قادر على تعطيل أسلحة ووسائل جهاز المناعة، أو بسبب ضعف في التغذية أو ظهور ورم سرطاني خبيث، فإن الجسد يفقد قواه المناعية، ويصبح عرضة للإصابة بأوهن الفيروسات وأضعفها على الإطلاق، فالجسد يحمل بين خلاياه كائنات ضعيفة، تعيش في سكون، غير قادرة على الحركة، وتصنف علمياً كجراثيم غير ضارة في حالة نشاط جهاز المناعة وإحكامه على منافذ ومناطق الضعف في الجسد، ولكن حين يضعف أو يهمل تحديثه وتطويره باللقاحات تستأسد وتتجبر تلك الكائنات المستضعفة، وتهاجم الأعضاء الحية والمراكز الحيوية في الجسد، وتكون بمثابة التحدي الكبير لجهاز المناعة، ويواجه الأطباء صعوبة كبيرة في علاجها، فهي مستعصية ضد تأثير المضادات الحيوية التقليدية، ويحتاج المريض أثناء إصابته بها إلى عناية مركزة، تنفس صناعي وإلى دفع كميات هائلة من الدواء والأكسجين إلى الدم والرئتين، وتظل عوامل أخرى كسلامة القلب والكليتين والكبد لها أهميتها في حسم المعركة ضد الجرثومة التي تجبرت بعد اختلال جهاز المناعة في الجسم، وحتماً تزداد الخطورة إذا تخلت بقية الخلايا في الدم عن أداء مهامها، أو منعتها من اداء أدوارها مقاومة ومضادات مشوهة في جهاز المناعة أو مواد تفرزها الفيروسات الغازية للجسد، فتحيدها وتجعلها مشلولة الحركة وغير قادرة على الاشتراك في بقية فصول المعركة مع الغزاة من الداخل.
وهذا النوع من الكائنات المستضعفة لا يحمل في حمضه النووي إلا رسالة الموت للإنسان، فهو يتدافع نحو الانتحار في خلايا الأعضاء الحيوية، فيصيب الحويصلات التنفسية بالشلل ويمنع الأكسجين من الوصول إلى الدم، حتى يختنق الإنسان ثم يموت، وكلما طالت رحى المعركة بينهما، زادت فرص إصابة بقية الأعضاء بالتسمم الجرثومي وبالمرض.
كذلك هو الحال في المجتمع، فالكائنات التي تحمل فلسفة الموت لا تستطيع تقديم الحياة لجسد المجتمع، فإرادة المعرفة والحياة والتطور والحرية والإصلاح لا تتلاقى مع معتنقي إرادة الموت، وهي حالة من الخروج عن نواميس طبيعة الحياة التي تَحمَّل الإنسان أداء أمانتها على وجه الأرض وتكفل بعمارتها بالعمل والمعرفة والصراع الطبيعي من أجل حياة أكثر كرامة، ولا تنمو عادة خلايا الموت في المجتمع إلا باختلال موازينه الطبيعية، ولكن حين تدب الحياة في أطرافها من جديد، تسعى بشراسة لتعطيل جهاز مناعته ثم الإجهاز على صحة الجسد وخنقه حتى الموت.
ولنا أن نتساءل لماذا يكون الحديث عن البطولة، بدفع الآخرين إلى الموت، ولماذا يرفعون من قيمة الموت، ويرخصون من ثمن الحياة، ولماذا يكرهون الحياة، وكيف استسهلوا القتل والموت والتفجير والغدر، وكيف تبدلت المفاهيم؟ فخطاب البطولة الحقيقي في ثقافتنا هو الجهاد من أجل أن نبقى على قيد الحياة، فكيف تم استبداله بخطاب الموت الذي ليس إلا رسالة انتحارية يموت بسببها أبرياء لم يكونوا على أية حال طرفاً في أي صراع.. إلا ذلك الصراع السامي من أجل حياة كريمة.
|