صدقت العرب حينما قالت: «جزى الله الشدائد كل خير» إذ أظهرت التفجيرات التي تعرضت لها العاصمة الحبيبة «الرياض» مدى حب الوطن في نفوس مواطنيه الشرفاء كما أنها عرّت هذا الفكر المجرم في حق الأمة وبيّنت بما لا يدع مجالاً للشك خطورته في حق نفسه وحق من حوله لأنه يفكر بطريقة عطّلت كل وسائل التفاوض واستبدلت الذي هو أدنى بالذي هو خير لترسم صوراً شتى من التخلف والاستبداد في الطبائع بشهادة لم تشهدها العصور على مر التاريخ على لسان هذا السيل الجارف من التشويه والمواجهة ونحن في عصر الحريات وحقوق الإنسان المملوء بكل هذا الإحباط والأسئلة المفعمة بالعقوق والثورات والارتزاق وتبقى إجابة واحدة عنها مروعة لما حدث وما يحدث تتناسب في تفاصيلها مع تفاصيل هذا الزمن الحزين الذي أصبح فيه الإنصاف قاصراً لم يعلن فطامه عن الباترياركيه وربما يزيده الغضب والعنف والهمجية نزيفاً لا مثيل له في حين أن الأجمل في الغضب في هذا الزمن الأسوأ أن يكون حضارياً نستطيع من خلاله الإصلاح من غير إساءة وتجريح وثورة على الثوابت الدينية والسياسية لأن غير ذلك قد يجلب خراباً أكبر ودماء بريئة أكثر.
وحين يجري الحديث عن الإصلاح في وطننا العذب، وتتبنى الدولة حفظها الله مبدأ الحوار مع وجهات النظر المختلفة بحرّية وشفافية فإن أول ما ينسى المخالفون هو مبتدأ هذه الجملة الطويلة الممتدة في حق الوطن الذي هو أكبر في نفوس أبنائه من أية وثيقة يتحدد من خلالها مصيره ومصير أبنائه وأسمى من أي حوار تخاض الحروب باسمه، وقودها الأعمى الإنسان والحضارة، ويمارس التشويه لثوابته وقضائه ورجال الأمن فيه من خلال الفضائيات على لسان بعض دعاة الإصلاح الذين نسأل الله أن يخلص نياتهم فيما يطرحون حتى صار الوطن أُمّاً صابرة تستحي من شكوى عقوق أبنائها للغرباء، وهم لا يدركون أن تلك التصريحات على رؤوس الأشهاد تضر الأمة اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً، وبخاصة ان الوطن مقبل على خصخصة المشروعات الكبيرة وهذا لا ينجح إلا بتوفير أرض آمنة لرأس المال الأجنبي. لقد انقلبت المعادلة رأساً على عقب عندما يقدم الوطن المجروح تنازلاته ويحاور خفافيش الظلام دون معرفة رؤوسهم ورموزهم وجهتهم دون الحصول على ضمان يوقف هذا الإجرام بحقه، فمن يضمنهم؟ ومن يقنعهم؟ وهل يقوم الحوار والإصلاح على نسف الأركان الثابتة في الأمة؟ وهل وجود بعض الأخطاء مبرر لكل هذا التشويه أمام العالم وإعطاء الآخر المتربص فرصة للنيل من الأمة؟ ولماذا لا يكون الإصلاح نابعاً من الحفاظ على منجزات الوطن ومكتسباته وسمعته العالمية في ظل حوار هادئ ومناصحة لا تُفشي أسرار البيت السعودي للناس وبخاصة أن الدولة جزاها الله خيراً تبنّت هذه المشروعات الوطنية وأعلنتها عن طريق مركز الحوار الوطني والانتخابات البلدية ومجلس الشورى والحرب على الفساد والاستبداد وهدر المال العام وما ذلك إلا ورقة تدل على حسن النية والرحمة والرأفة بأبنائها الذين لا يدركون أن لكل مواجهة مسلحة استحقاقاتها السياسية والاقتصادية والأمنية كما أن لكل هزيمة مديونيتها، فعليهم أن يستغلوا هذه الرحمة ولا يعدموا الخيارات المطروحة للرقي بهذا المجتمع والسمو بأفراده حتى لا يقع الجميع فرصة ذهبية ونادرة للآخر المتربص كي لا يعتصرهم حتى آخر قطرة وحينها لا يجدي الصراخ: نريد وطناً آمناً فقط.
إن المشهد غير قابل للاستيعاب صدقاً بهذه الصورة من الإجرام والتبرير الذي لا يقبل إلا أن يكون حدثاً جللاً ومصيبة لا يفيق المرء من صدمتها الأولى، والأدهى من ذلك أن بعض الدعاة غفر الله لهم يطلقون الصفات الحسنة على مَنْ هم يتربصون بنا شراً من خلال أبواق الفضائيات ومواقع الإنترنت، ويصفونهم بالشيخ والأخ، وينهون عن الحديث فيما يخصهم وينال منهم ويكشف زيفهم وعورتهم للناس ويؤكد انهم مجتهدون ومصلحون ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون، وكثيراً ما وقف الأئمة أمام سؤال مهم في حق المبتدعة والخوارج والبغاة: هل يجب ذكر الحسنات مع السيئات لمن وجد عنده مخالفة أم يحذر من أخطائه فقط؟ وهل التحذير من أخطاء أشخاص لهم أسماء مشهورة يؤثرون على الناس بشبههم يعد من الفتنة؟
والجواب أن النبي صلى الله عليه وسلم تركنا وقد أتم الله به الدين وصان به حِمى الشريعة من تأويل ا لجاهلين وانتحال المبطلين، وحث على لزوم السنة والجماعة وحذّر من حبائل الكذب والهوى والابتداع، وتمسك السلف الصالح بهذه الوصية حتى قال الأوزاعي رحمه الله «ندور مع السنة حيث دارت»، وروى البخاري في صحيحه عن حذيفة رضي الله عنه قال: «اتقوا الله يا معشر القراء، وخذوا طريق من قبلكم، فوالله لئن استقمتم لقد سبقتم سبقاً بعيداً، وان تركتموه يميناً أو شمالاً لقد ضللتم ضلالاً بعيداً».
وروى ابن وضاح والدرامي وغيرهما عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: «كيف أنتم إذا ألبستكم فتنة يربو فيها الصغير ويهرم فيها الكبير إذا ترك فيها شيء قيل: تركت السنة، قيل متى ذلك يا أبا عبدالرحمن، قال وذلك إذا ذهب علماؤكم وكثرت جهالكم، وكثرت قراؤكم وقلت فقهاؤكم والتمست الدنيا بعمل الآخرة وتفقه لغير دين الله».
وبناء عليه تجد أن أهل السنة على مر العصور هم أهل الإيمان لم تتغير أصولهم ولم تتجدد وأهل الإبداع أهل الحيرة والشك والتخبط، كل يوم وهم في شأن وخلاف ينالون من الثوابت بحجج الإصلاح حتى ان الذي يسمعهم يظن أننا فاسدون حداً لا يوصف والعلاج لا يكون إلا بالاستئصال وتسليط الأحزمة الضوئية، ويغمزون في العلماء بحجج واهية وتجاسروا على الفتيا في حين أن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يتدافعونها قال تعالى: {قٍلً إنَّمّا حّرَّمّ رّبٌَيّ الفّوّاحٌشّ مّا ظّهّرّ مٌنًهّا وّمّا بّطّنّ وّالإثًمّ وّّالًبّغًيّ بٌغّيًرٌ الحّقٌَ وّأّن تٍشًرٌكٍوا بٌاللَّهٌ مّا لّمً يٍنّزٌَلً بٌهٌ سٍلًطّانْا وّأّن تّقٍولٍوا عّلّى اللَّهٌ مّا لا تّعًلّمٍونّ} وقال أيضاً: {وّلا تّقًفٍ مّا لّيًسّ لّكّ بٌهٌ عٌلًمِ إنَّ پسَّمًعّ وّالًبّصّرّ وّالًفٍؤّادّ كٍلٍَ أٍوًلّئٌكّ كّانّ عّنًهٍ مّسًئٍولاْ}.
وانطلاقاً من ذلك يجب بيان حالهم وتحذير الأمة منهم باتفاق المسلمين حتى قيل للإمام أحمد بن حنبل: الرجل يصوم ويصلي ويعتكف أحب إليك أو يتكلم في أهل البدع؟ فقال إذا قام وصلى واعتكف فإنما هو لنفسه وإذا تكلم في أهل البدع فإنما هو للمسلمين» وما أجمل قول يوسف بن أسباط الإمام المحدث عندما حذر من الحسن بن صالح، فأنكروا عليه وقالوا هي غيبة فقال لِمَ يا أحمق، أنا خير لهؤلاء من آبائهم وأمهاتهم وأنا أنهى الناس أن يعملوا بما أحدثوا فتتبعهم أوزارهم ومن أطراهم كان أضر عليهم، ويؤكد هذا ما روى الإمام مسلم في مقدمة الصحيح أن عبدالرحمن السلمي كان يحذر الشباب والأحداث من الذهاب إلى شقيق الضبي القاص، وروى مسلم أيضا عن عبدالله بن المبارك أنه كان يقوم على رؤوس الأشهاد ويقول: دعوا حديث عمرو بن ثابت فإنه يسب السلف، فما بالك بمن يسب ولاة المسلمين وعلماءهم وقضاتهم ويسمعه العالم بأسره، ولاحظوا أن التحذير من الحسن بن صالح في زمن لا يتجاوز كلامه حياً في مدينة كبغداد وروى أيضاً عن سلام بن أبي مطيع قال بلغ أيوب أني آتي عمراً، يعني ابن عبيد فأقبل عليّ يوماً فقال: «أرأيت رجلاً لا تأمنه على دينه كيف تأمنه على الحديث. قلت الله أكبر، نطق والله بالحكمة والعلم، رجل هو بنفسه على نفسه غير مأمون، كيف آمنه على نفسي، كيف آخذ منه العلم؟ كيف أثني عليه؟ كيف أغرر به العوام والجهال؟
ولما اقتضى المقام بيان الحال اكتفى المصطفى صلى الله عليه وسلم ببيان أسماء من لا ترضى أفعاله وهي ترجع للعادات والطبيعة ولا يتعدى ضررها أكثر من نفسه أو أهل بيته فقد روى الإمام مسلم «أن فاطمة بنت قيس رضي الله عنها ذكرت للنبي صلى الله عليه وسلم أن معاوية بن أبي سفيان وأبا جهم خطباها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه، وأما معاوية فصعلوك لا مال له، انكحي أسامة بن زيد، فكرهته، ثم قال انكحي أسامة فنكحته فجعل الله فيه خيراً كثيراً واغتبطت» والأمر إذا كان يخص أصول الدين وحاجة المجتمع وحفظ الضرورات الخمس فهو أولى وأظهر. قال القرطبي رحمه الله فيما نقله عنه ابن حجر في الفتح 10/452 «في الحديث جواز غيبة المعلن بالفسق أو الفحش أو نحو ذلك من الجور في الحكم والدعاء إلى البدعة مع جواز مداراتهم واتقاء شرهم ما لم يؤد ذلك إلى المداهنة في دين الله».
ونص المصطفى صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري ومسلم من حديث عكرمة «ويح عمار تقتله الفئة الباغية، يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار» والفئة الباغية هم جيش معاوية رضي الله عنه ومن معه من الصحابة الكرام، ولم يذكر الرسول محاسنهم وفضلهم لأن المقام يقتضي بيان حالهم رضي الله عن الجميع. فما بالك فيمن يدخلون في حديثه صلى الله عليه وسلم المتفق عليه: «يأتي في آخر الزمان قوم حدثاء الأسنان سفهاء الأحلام، يقولون من خير قول البرية، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، لا يجاوز إيمانهم حناجرهم، فأينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإن قتلهم أجر لمن قتلهم يوم القيامة» «وفي رواية عند أحمد وغيره كلاب النار ثلاثاً - شر قتلى تحت أديم السماء».
وكان سفيان الثوري يحذر من الحسن بن صالح حتى انه دخل عليه مرة وهو يصلي فقال: نعوذ بالله من خشوع النفاق، ويقف في مطاف الناس ويقول، أيها الناس «احذروا من الحسن بن صالح فإنه يرى السيف على أمة محمد، وكان زائدة بن قدامة الثقفي يجلس إلى اسطوانة المسجد لا يقصد إلا تحذير الناس من الحسن بن صالح حتى انه كان يستتيب من ذهب إليه، وجالسه.
والله من وراء القصد.
(*) الإمارات العربية المتحدة
|