مركزيّة الخطابات الإعلاميّة العربيّة
لَشَدَّ ما أصبحت الكتاباتُ العربيّةُ خاصّةً حول قضيّةِ مُصطلح «الإرهاب» لافِتةً لِنَظر أيِّ مُتابِعٍ للخطاباتِ الإعلاميّةِ بأنواعها المَرئيّةِ والمَسمُوعة، كما أنّها أصبحت لافِتةً للنّظرةِ الّتي تفحصُ، وتُفَكِّكُ، وتتأمَّلُ الفلسفةَ الكامِنةَ خلفَ هذهِ الثّورةِ أو هذا التّفجُّرِ في القَوْلِ حولَ «الإرهاب».
قبلَ أيِّ مُناقشةٍ أو تحليل، ينبغي تحديدُ المصطلحاتِ المُستخدَمة في هذهِ الكتابة الّتي هيَ قولٌ على قَول، نقدٌ على نقدِ نقد.
لن تستخدمَ الكاتبةُ مصطلح «الغرب «بوصفهِ صانِعًا لمصطلح «الإرهاب» وتبِعاتِه إلاّ فيما قَلَّ، وهوَ بكلِّ حالٍ يُشيرُ إلى أمريكا أوّلاً، ومن بعدها ثُلّةُ الدُّول الأُوروبّيّة، فيما ستستخدم مصطلح «أمريكا/ أمريكيّ «أكثر شيء؛ لأنّ أمريكا زعيمةُ العالمِ الغربيِّ الآن، أو بالأدقّ هيَ السّاعيةُ سعيًا حثِيثًا لِزعامةِ الغرب والشّرق على حدّ سواء، والقَرنُ الحادِي والعِشرُون هُو قرنُها كدولةٍ عُظمى، ووصفُ «الأمريكيّ» قد يشمل الأوروبّيّ في بعض المواطِن الاستشهاديّة بمُتُونٍ (نُصُوص Texts) نقديّةٍ أُوروبّيّةٍ تُجلِّي النّهجَ الأمريكيّ، وسيُوضَّح ذلك في مكانه؛ فالأمريكيُّون جِماعُ خليطِ الثّقافاتِ، والآراءِ، والسّياساتِ الأُوروبّيّة باختلافها، ولَيسُوا أصلاً صَافِيًا مُستقِلاًّ مُنذُ مَنشئِه.
وبتدقيقٍ أكثر، فإنَّ فترةَ حُكمِ الرّئيس الأمريكيّ جُورج دبليو بُوش الصّغِير (George W. Bush)، ملكِ العالمِ حاليًّا، ونهجها هيَ مدارُ التّحليل، لا عامّة العُهود الرّئاسيّة، ولا عامّة الشّعب الأمريكيّ.
كذلك، إذا ورد مُصطلح «العرب»، أو «الشّرقيّين»، أو «المُسلِمين»، فإنّ المَرجِعيّةَ المَقصُودةَ هيَ المُسلِمُون؛ أي الّذين يَدِينُونَ بالدِّينِ الإسلاميّ - خاتمِ الأديان.
قد لا يكونُ من المُفرِحِ والمُطمئِنِ سِيادةُ التّصدِّي لِتُهمةِ «الإرهاب» المُلَفَّقَة على الخِطاباتِ العربيّة الإسلاميّة الّتي يَنحبِسُ كثيرٌ منها في الحُدودِ الّتي أطلقها الأمريكيُّون بما فيها من تناقُضاتٍ، وادِّعاءاتٍ، وإلصاقٍ لِما لا يَلتَصِقُ منَ الأحداث والقرائن؛ وذلكَ؛ لأنَّ الأمريكيّين يسعونَ إلى التَّحكُّمِ في مَساراتِ الفِكر العربيّ الإسلاميّ من خِلالِ إجبارِ العرب بِفَرْضِ مَواضِيعِ أزمةِ السّاعة الّتي يُدِيرُون خِطاباتِهم حولها؛ فالأمريكيُّون كَفِيلُونَ بإنعاشِ وتَثوِيرِ رُكودِهِم؛ فلا حاجةَ لأِنْ يشقَى العربُ باستِحداثِ أفكارٍ أو مَوضُوعاتٍ حيوِيّة.
الأمريكيُّون يُريدونَ أن يَبقوا هُمُ الّذينَ يُفجِّرونَ قضايا المَعرِفة ومَوضُوعاتِها، والعرب مَحصُورونَ بتَردِيدِ الصّدى عكسِيًّا بمُحاولةِ لَمِّ الشّظايا، بدلَ تَحلِيلِها واستِخلاصِ دِينامِيَّتِها، وأهدافِها، ومَوادِّ صُنعِها/ مُكوِّناتِها؛ لِخَلْقِ المُضادَّاتِ الحَيوِيّة الجَوهريّةِ لها.
إنَّ الغايةَ الأمريكيَّة تَكمُنُ في حَبْسِ العربِ المسلمين فيما سُمِّيَ «التَّلذُّذ بِالتّبَعِيّة الإجبارِيّة» ، بحيثُ يتعايشونَ معَ ظُروفِ وإجباراتِ هذا الوضع، ولا يَنعتِقُونَ منه، بل لا يَهْنئونَ بالانعِتاقِ منه، ولا يُسمَعُ لهم إلاّ ما هوَ مَرفُوضٌ من تَبرِيرِ هذا الوضعِ والشّكوى منه .
لِماذا الإخضاعُ الأمريكيّ للعرب المُسلِمين؟
وكيفَ تَمَّ تَخطِيطُهُ الذِّهْنِيّ؟
لا يُمكِنُ أن يكونَ منَ المُنصِفِ اتّهامُ العربِ بالشُّروعِ في تسلِيمِ أنفُسِهم مُخضَعِينَ جاهِزِين، كما لا يُمكِنُ أن يكُونَ منَ المُنتِجِ تَحلِيلُ هذا الخُضُوع، لِفَكِّ عُقْدَةِ «الإرهاب» السِّحرِيّة الّتي نفثَها الأمريكيون عليهم، دُونَ معرِفةِ بدايةِ وكَيفِيّةِ تَخلُّقِ هذا المَشرُوعِ - الاتّهام، فليسَ من السُّهُولَةِ تَفْجِيرُ مثلِ هذا الوصف ضِدَّ العَرب وعليهِم لو لم تَكُنْ أذهانُ المُفكِّرِينَ الأمريكيِّين، الّذين تقومُ عليهِم دعائمُ الدّولةِ قبلَ أيِّ دعامةٍ عسكريَّةٍ نوويّة، قد لَفَّقُوا وحَشدُوا عددًا منَ السّندات والتّعليلات الّتي تُرضِي الخِطّةَ الأمريكيّة الغربيّة السّياسيّة على امتِداداتِها التّاريخيّة الصّليبيّة.
أمامَ إِشكاليّةِ اتِّساعِ العالمِ الإسلامِيِّ ، كانَ الحَصْرُ، ومِن ثَمَّ التّعمِيمُ للجُزئِيّاتِ والأُمورِ العَارِضَةِ الأداتَيْنِ الأَبرَزِ من أدواتِ تركِيبِ «الإرهاب» وإنشاءِ فَيْلَكِهِ الطّاحِن، وكانت البِداية بأنْ تَبلوَرَ وتَكوَّرَ على مدى مِئاتِ السِّنِين تركِيزُ أغلبِ المُستَشرِقين الاستعماريِّين (مُفكِّرِي ودَاعِمِي أمريكا قبلَ عسكرِيِّيها وترساناتِهم) على تقليصِ المُسلِمين؟العَرب/ الشّرقيِّين في أوصافٍ تَجرِيديّةٍ، مَحدُودةٍ جِدًّا، ومُنقطِعةٍ عنِ الواقِعِ العامّ؛ فَهُم: سُمْر، مُسْلِمُون، سَطحِيُّون، سَحَرةٌ مُشَعوِذُون، غَدَّارُون، آكلو لُحُومِ البَشر،... أوصافٌ أفرزت داءَ التّعمِيم، كمرضٍ من أمراضِ المَنهجِيَّةِ العِلمِيَّة، وأدواتِ بِناءِ الثّقافاتِ: قِيَمًا، وأفكارًا، ومَواقِفَ، زُجَّتْ، جَمِيعًا، في مَيدانِ النَّشْرِ العَالمِيّ؛ لِتَسكُنَ العَددَ الأكبرَ من العُقُولِ القارِئةِ أوِ المُستمِعَة الّتي تتلقّى ذلك دونَ كثيرِ مُساءَلاتٍ عن مِصداقيّتِهِ وواقِعيَّتِه. ولِتَعمِيقِ هذا التّكتِيلِ للعَرب وتَجذِيرِه، قال جُوزِف - آرنِست رِينان Joseph-Ernest Renan)) (1823-1892) عن العِرق السّامِيّ الّذي يَنتمِي إليهِ العرب: «إنَّ الإنسانَ ليَرى فِي كُلِّ شيءٍ أنَّ العِرْقَ السّامِيَّ يبدُو عِرْقًا غيرَ مُكتمِلٍ بسبب بساطتِه.
وهذا العِرق، بالقِياس إلى العائلة الهِندُو - أُوروبّيّة، مثل تخطيطٍ بقلمٍ رصاص - إذا جرُؤتُ على استخدام هذا القِياس بالنّسبة إلى ذلكَ التّنوُّع، وذلكَ الثّراء، وتلكَ الوَفرَةِ الفَائِضَةِ منَ الحياةِ الّتي تُشكِّلُ شرطَ الاكتِمال.
يتّضِحُ أنَّ عمليّةَ تَجمِيدِ العرب بمُصطلحٍ وَصْفِيّ، تَعمِيمِيّ، تَكْتِيلِيّ كُلَّ فترةٍ وسيلةٌ مِن وَسائلِ السّيطرة على هذه الشّريحة من البشر الّتي لا تروقُ لأمريكا كما هو الأمرُ في وصفِ «الإرهاب» الحاليّ؛ فالعربيّ كائنٌ جامِدٌ في وصفٍ واحِد، كائنٌ ساكِن؛ إذن هُوَ مَيِّتٌ لا حيًّ؛ لأنَّ طَبْعَ الحياةِ الحركة كما ستأتِي فلسفةُ ذلك لاحِقًا وبالتّالي، فهو يحتاجُ لمَن ينفُخُ فيهِ الرُّوح، وأمريكا هيَ المُرَشَّحُ الوَحِيد - كما يرى البيت الأبيض ويمينه المُتشدِّد -!
يتوغَّلُ التَكتِيلُ في صيغٍ ورُؤىً لا عِلمِيّةَ فيها بِقدرِ ما هي انطباعاتٌ تُعِيدُ ما هُو مُتَوارَثٌ عن تصوِيرِ العرب في الذِّهنِيّةِ الغَربِيّة، فهذه الباحثة إيمّيت تَيْرل R. Emmett Tyrell)) قد اكتشفتْ حقِيقةً جِينِيّةً فريدةً، فأعلَنتْ بِبَهاء: ... إنَّ العربَ أساسًا قَتَلة، وإنَّ العُنْفَ والخَدِيعَةَ مَحمُولانِ في المُورِّثاتِ العربيّة ...
ووسط ارتِياعِ جُورج أُرويل George Orwell)) (1903-1950) عندَ زِيارته إحدى المُدن الإسلاميّة، صرخَ مُتلَجْلِجًا: «إنَّ للبشرِ وُجوهًا سمراء- وإلى جانِبِ ذلك، فإنَّ لديهم عددًا كبِيرًا منها! هل هُمْ حقًّا اللّحمُ نفسُه الّذي هُوَ أنت؟ هل لهُم حتّى أسماء؟ أم أنّهُم مُجرَّدُ مادّةٍ سمراءَ لا مُتَمايِزَة، أفراد بِقَدْرِ ما النّحل أو حشراتِ المَرجان أفراد؟» وَ... حِينَ ترى كيفَ يعِيشُ النّاس، وأكثر من ذلك؛ بِأيِّ سُهُولَةٍ يمُوتُون، فإنَّ منَ الصَّعْبِ دائمًا أن تُصدِّقَ أنَّكَ تَسِيرُ بَيْنَ كائناتٍ بَشريّة.
إنَّ التّعالِيَ في تَصوُّرِ وتَصوِيرِ الآخَرِ الإسلامِيِّ أو العربيّ يُعمِي عَن رُؤيةِ المَوضُوعِ نفسِه، من الزّاوِيةِ نفسِها عندَ عشِيرةِ أُرويل الغَربيّة؛ فكثيرون يمُوتون بسُهولةٍ أيضًا، ولا يتّضحُ ذلك؛ لأنّ أعدادَهُم بقدر ما النّحل !
بِأسىً وخَوْفٍ مُختَلِطَين، قرّرَ فرانشِز-أُوغست-رِينيه شاتُوبِريان François-auguste-René Chateaubriand
(1768-1848م) التّالي: (... كان العربيُّ الشّرقيُّ «إنسانًا مُتحضِّرًا سقطَ ثانِيةً إلى حالةِ الوَحشِيّة...).
ويعضُدُ ذلكَ أنَّهُ... في أشرطةِ الأخبار، أو أشرِطةِ الأخبار المُصوَّرة، يَظهَرُ العربُ دائِمًا بأعدادٍ ضخمة، لا فرديَّةَ، لا خصائِصَ أو تجارَبَ شخصيّة، وتُمثِّلُ مُعظمُ الصُّور الهيجانَ والبُؤْسَ الجَماعِيَّيْن، أو الإشارات والحركات الّلاعقلانيّة (والشّاذّة حتّى اليأس، بالتّالي).
وخلف هذه الصُّور جميعًا يتربّصُ خطرُ الجِهادِ المُهدِّد، والعاقِبة: الخوف من أنَّ المُسلِمين (أو العرب) سوف يحتلُّون العالم.
رَمتْنِي بِدائها وانسلَّت، بل استصرَختْ !!
ولا تخفى عُقدةُ توهُّمِ سيطرةِ المُسلِمينَ عن طريقِ مبدأِ الجهاد، وعودتهم لحُكم العالم مرّةً ثانية، وكم هذا التّوهُّم المَرَضِيّ بادٍ في خِطاباتِ وتصريحاتِ القيادات الأمريكيّة من تعليلِ تَقتِيلِهِم الحضارات والمُسلمين بدعوى الحِماية من خطرٍ مُحتَمَل Probable Danger))!
قبلَ تحليلِ أمرٍ مُلفِتٍ في هذا المَتْن، يَحضُرُ مَتْنٌ آخرُ يَعرِضُ صُورةَ الإسلام في الكُتُب الدِّراسِيّة الأمريكيّة؛ حيثُ الرُّؤيةُ هي: (... «بدأ الدِّينُ الإسلاميُّ المُسمَّى الإسلام، في القرن السّابع. وقد بدأهُ رجلُ أعمالٍ ثرِيّ من شبهِ الجزيرة العربيّة يُدعى مُحمَّدا. وقد ادّعى أنّهُ نَبِيّ. ووجدَ أتباعًا بينَ العرب الآخرين. وأخبرهم بأنّهُم اختِيرُوا لكي يحكُمُوا العالم»)والصُّورة - تنزّهَ عنها الإسلامُ والرّسولُ (- لا يَخفى خطأُ تصوُّراتِها؛ فهُم لا يحكُونَ عنِ الإسلامِ الحَقِيقِيِّ - خاتمِ الأديانِ السّماوِيّة، ولا عَن خاتمِ الأنبياءِ الحقيقيّ عليهِ وعلى آلهِ أفضلُ الصّلاةِ وأتمُّ التّسليم.
ومَقْصِدُ الاستِشهاد بهذا المَتْن هُوَ الالتِفاتُ إلى مَأساةِ تصوُّرِ الأمريكيّين للإسلام بوصفِهِ كان دولةً عُظمًى (أكثر من مُجرَّدِ دِينٍ عظِيم، فقد جمعَ القُوّةَ الرُّوحانِيّةَ -العقليّة والسّياسيّة- العسكريّة) التي سادت لِقُرون، وستَسُودُ مرّةً أُخرى؛ لأنّها لمْ تَبِدْ مِثْلَ أيِّ أُمَّةٍ بادَت، ولنْ تَبِيْد؛ فالمُجتمع الإسلاميّ... الّذي يُوجَدُ في حالةٍ من السّيلانِ «الهُلامِيّ»، ... كما اكتشفَ بعضُ المُستشرِقين الاستِعماريِّين وَالمُتعصِّبين، وهوَ بِأهلِهِ كُتلةٌ لا مُتمايِزَة، والسّائِلُ يَنتشِرُ، ويتداخَلُ مع الأشياء الأُخرى، وقد يُذِيبُها أو يهدِمُها بطريقةِ الإِذابةِ والإلانةِ بالرُّطُوبة؛ فالمجتمع الإسلاميُّ خطر!
إذن، بما أنَّ المُسلِمينَ.. أوّلاً، يَدٌ واحِدةٌ وطبيعةٌ واحدةٌ في نُزُوعِهِم للانتِقامِ الدّموِيِّ، وثانِيًا، عاجِزُونَ نفسِيًّا عنِ السّلام، وثالِثًا، مَشدُودُونَ فِطرِيًّا إلى مَفهُومٍ للعدالةِ يعنِي نقِيضَ ذلكَ تمامًا، لا ينبغِي أنْ يُوْثَقَ بِهِم ولا يُؤْمَنَ جانِبُهم، بل ينبغي أن يُحارَبُوا مِن آنٍ لآن كما يُحارِبُ المرْءُ مرضًا مُهلِكًا. على حدِّ قَوْلِ أُستاذِ العُلُومِ السّياسِيّةِ جِلّ كارل أَلْرُوْي (Gil Carl Alroy).
هذا الإيقاعُ لِتخيُّلِ تَصيُّدِ المُسلِمين للَّحظَةِ المُناسِبة للانقِضاضِ على إمبراطوريّاتِ العالم من جديدٍ، يَدفِنُ وراءَهُ مَرجِعيَّاتٍ لا تَظهَرُ أمامَ كثافَةِ التّوهُّماتِ الّتِي أحاطُوا بها هذا التّوقُّع من أوصافِ الوحشِيّة، ونزعة التّسلُّط المُجرّدة من أيِّ هدفٍ إنسانيّ نبيلٍ للجميع؛ فمعَ كثرةِ تفكِيرِ الأمريكيّين في هذا الخطر الّذي صاغتْ لهُ تراكُماتُ تَصوُّراتِهِم هيئةً مُفزِّعةً أحيانًا، وساتِرةً مُعلِّلَةً لاعتِداءاتِهم على البَشرِيّة جَمعاء، وعلى المُسلِمين بالخُصوص تحتَ قِناعِ الخَوفِ اليَقِينِيّ هذا.. يَصدُقُ عليهِم قولُهُ تعالى: {يّحًسّبٍونّ كٍلَّ صّيًحّةُ عّلّيًهٌمً هٍمٍ پًعّدٍوٍَ فّاحًذّرًهٍمً}.
إن كانت كثرةُ القِيلِ والقَال في انبِعاثِ إمبراطوريّةِ المُسلِمين الّتي ستفترِسهم، قد أصابتهم بهستريا توهُّمِ هذه الحادثة الجَلَل، فلا تخفى قصدِيّةُ تضخيمِ هذا التّوهُّم، وإعلانه على الملأ، ونشره بكثرةِ الصّيحات؛ وذلكَ لكي يكسَبَ مِصداقيّة؛ لكي يكونَ شيئًا لهُ حقيقةٌ تراكُميّة، شيئًا يُبِيحُ للأمريكيّين الهُجوماتِ الطّلائِعيّةَ الإبادِيّةَ كَسْحًا لأَيِّ انبِثاقٍ لأنيابِ هذا الخَطر الّذي لا يُدرَى مِن أينَ سيبزُغ، ولا مَن سيُفجِّرُه، ولا متى؟!
أيضًا، مَرجِعيّةٌ أساسيّةٌ في إصرارهم على ذلك؛ للتّذرُّع بهِ كُلَّ ذاتِ غزْوٍ واحتِلالٍ للبُلدانِ الإسلاميّة؛ فَهُم بالتّأكيد قرؤوا ووعوا حديثَهُ «لا تقُومُ السّاعةُ حتّى تُقاتلوا اليهود، حتّى يقولَ الحجرُ وراءَهُ اليهوديّ: يا مُسلِم، هذا يهوديٌّ ورائي فاقتُله».
ولا يُمكِن نَفْيُ معرِفتهم ويَقِينِهِم بذلك إلاّ من قِبَلِ مَن يَجْهَلُ العُمقَ الّذي بَلَغَهُ بعضُ المُستشرِقين في تشريحِ القُرآن الكريم والأحاديث النّبويّة؛ بهدفِ زَلزلَةِ المُسلِمين بواسطة أساسيّات تشريعهم الإلهيّ؛ فَهُم يعرفون مِن أينَ تُؤكَلُ الكَتِف؛ إذ لا يُؤثِّر كثيرًا، ولا يكون ذا اعتِبارٍ أن تأتي شخصًا من غيرِ الأُمور الّتي يَعتقِدها ويُؤمِن بها، فهيَ جَوهرُ فِعلِهِ الحَركِيّ، والنّفسِيّ، والرُّوحيّ. وإن كان الأمريكيُّون لا يُؤمنون بالدِّين الإسلاميّ دِينًا يعتنِقُونَه، فإنّهم لا يُؤمنون إطلاقًا بمنطقيّة تجاهُلِهم له، فهو الدّين الّذي بشّرتْ بهِ المسيحيّة وما قبلها من أديانٍ قبلَ أن يُحرِّفَها أهلُها.
وإن كان الحديثُ الشّريف يَعقِدُ الحربَ الأخيرةَ بين المسلم واليهودِيّ، فإنّ الأمريكيّ مُلتزِمٌ تِجاهَ اليهوديّ وقضاياه كلِّها، أو كما قِيل: الأمريكيُّون أكثرُ يهوديّةً من اليهودِ أنفسهِم؛ لِذا يشعُرُ الأمريكيّ أنّهُ المقصُودُ المُباشِرُ بهذا القتْل الخَطَر!
خطوة أُخرى في قراءة المَرجِعيّات لهذهِ العُقدةِ الذِّهنيّة، بما أنّ أمريكا لا تُؤمِنُ بأن يَنطَبِقَ عليها قانونُ الحياة والموت للحضارات، الّتي تُسْلِمُ القِيادَ لغيرِها باستمرار بعدَ أن تقضيَ نصيبَها المَفروضَ من الحياة والسّيادة، وتكون الأُمّةُ؟ الدّولة الأُخرى قد امتلكَتْ عواملَ السّيادة مُعتَصِبةً على رأْيٍ واحِد، فإنّها تظلّ (أمريكا) تُريدُ أنْ تَستأثِرَ بالسُّلطانِ الدُّنيويّ، والسُّلطة العالميّة مُطلَقًا، وخارِج دوران التّاريخ وحركته.
هذه الأنانيّة السُّكونِيّة في تصوُّر أمريكا لِبِنائها الّذي لا يَنزِلُ عن عرشِ العالم هيَ ناقُوسُ هرَمِ الدّولة، واحتِضارِها، وانفِضاضِ أعوانها من حولِها، وانكِسار شَوكَةِ وتَحفُّزِ أبنائها ومُواطِنِيها لِنُصرتِها، مُستشعِرِينَ الذُّلَّ والاستِعباد؛ فهُم أداةٌ لِتَحقِيقِ طُموحِ شخصٍ واحِد!
إنّ أمريكا تقومُ بإسقاطِ تصوُّرِها لِذاتِها (في سَعْيِها لإبادةِ الوُجودِ تحتَ سُلطانِها) على تصوُّرِ؟ تَخيُّلِ المُسلِمينَ المُنتَظَرَةِ سيطرتُهم، أولئكَ الّذِين تَنعتُهُم بالوَحشِيّة، ولا مفهومَ حقيقيَّ لهذهِ الوحشيّة إلاّ أنّهم همُ الّذِينَ يرفضُونَ جبرُوتَ أمريكا وسَلْخَها لِهُوِيَّاتِهِم العائدة لِحضاراتٍ أصيلةٍ لا تمتلِكُ أمريكا عُشْرَ أصالتِها.
* ... النّعِيمَ وألِفُوا عَوائِدَ الخِصْبِ في المعاشِ والنّعِيم، نقصَ من شجاعتِهم بمقدار ما نقصَ من توحُّشِهِم وبَداوتِهِم.
إنّ مصدرَ الخوفِ الأمريكيّ يتصعَّدُ من هذهِ «الوحشيّة «الّتي يَعِيبُونَ بها المسلِمين بناءً على مفهومِ الّلاإنسانيّة، الّذي هُوَ بِدِقّةٍ رفضُ القَرارِ والحُكْم الأمريكيّ، فيما «الوحشِيّة» مِدحَةٌ للمُسلِمين وللعرب في ثقافتهم الخاصّة؛ فكُلّما كانت الأُمم أقربَ للأرضِ (الأُمِّ الّتِي خُلِقُوا منْها وسيعُودُن لها) كانتِ الأقدرَ على امتِلاكها بطِيبِ نفسٍ من كِلا الطّرفين (الإنسانِ والأرضِ)، فالأمريكيُّون مهما حاربوا من علياءِ السّماء، ودكُّوا أهلَ البِلاد الإسلاميّة بقاذفاتِB-52 وأخواتها كما حدث في غزوِ أفغانستان 2001م، والعِراق 2003م فمصيرهم هو النُّزولُ إلى الأرض الّتي ليسَ بينَهُم وبينها أيّ علاقةٍ إنسانيّةٍ أو لُغةِ تفاهُمٍ واضحة؛ فالفلاّحون العامِلُونَ على إخصابِ الأرضِ بإذنِ الله أقدرُ منَ الثّرِيِّ المالِكِ على مُعايَشَةِ كافّةِ التّغيُّراتِ والكوارِث الأرضيّة؛ لأنّهم لَصِيقُونَ بالأرض، عارِفُونَ لِنفسِيَّتِها وما يتناسَب معها من أحوالِ نفسيّاتِهم؛ إذ توطّنُوا على ذلك، واستعدّوا لأسوأِ احتمالاته، وفوقَ ذلكَ عَشِقُوا الأرضَ وعاهدُوها على الوِصال، ولم تكُن لِتَعْنِيَ لهم شيئًا عابِرًا إذا نَفَقَ نِفطُها أو قاربَ أنْ يَنْفَق.. شَحُبَتْ صُورتها في أذهانِ أهلها، وبدؤوا يحتلُّونَ غيرَها؛ لكي تبقى الأرضَ العجُوزَ القائمةَ على دِماءِ الأراضي المغصُوبَةِ المُحتلَّةِ الشّابّة، كما في أزمةِ الاحتلالات الأمريكيّة. يُثبِتُ ما سبق صيحاتُ الجُنودِ والقادة الأمريكيّين الّذين خُدِعُوا بمأموريّةِ السّلام العالميّة الأمريكيّة للخُروج من الأرض الّتي ليست لهم: «يجب أن نخرج من هُنا. نحنُ فريسةٌ سهلةٌ، نجلِسُ في شاحناتٍ ولا نستطيعُ الدِّفاع عن أنفسنا».
(يجب على المسؤولين الأمريكيّين أن يُخرجونا من هنا إنّني أقول ذلك بكلّ صدقٍ وجِدّيّة، إنّه لا يُوجد لنا ما نفعله هنا، إنّنا لن نستطيع تغيير الثّقافة الموجودة في العراق، وفي بغداد... إنّنا جميعًا هُنا مُعرَّضُون للقتل).
(... إنّني أُصلِّي كلّ يومٍ وأنا على السّطح، أُصلِّي بأن نعودَ سالِمينَ إلى بيُوتنا، إنّ على الرّئيس أن يعرف أنَّ الأمرَ بيده، وعلينا جميعًا أن نعرف أنّ هنا ليس بيتنا، إنّ أمريكا هي بيتنا، وجميعنا نصلّي بأن يقوم الرّئيس بعملِ شيءٍ مّا بالنّسبة لهذا الموضوع)... (... في أسرع وقتٍ ممكن).
(... إنَّ الحياة صعبةٌ ومستحيلةٌ هنا، ولذا فإنّه من المستحيل إبقاء نفسيّاتنا مُرتفعة).
تلكَ تصورات رئيس دولةٍ عُظمًى بعد تفاقُمِ حالة التّوهُّم للخطر الإسلاميّ الّذي سيكتسِحُ مملكتَهُ وحدَه، مُتجاهِلاً نداءاتِ جُنودِهِ وقُوّادِه الكُهول والفِتيان، النِّساء والرّجال؛ لِيُنمِّيَ في أذهانهم تفاقُمَ توهُّمٍ آخر، وهو تهميشهم وتجاهلهم، ليظلُّوا يتخيّلونَ رُعبَ إدارةِ ظهرهِ لهم بعدَ أنْ عبرَ من خلالهم، على قِيعانِ نفطِ المسلمين؛ لِيمتصَّها مُجدِّدًا دِماءَ إمبراطوريّته فيما هُم أبناءُ المُعلّبات المعدنيّة الّذين لم يتعوّدوا على مُصادقة الأرض والتُّراب، يُعانون حياتَهُم خارجَ الأرض- أمريكا، الأمرَ الّذي بدأ يتّخذُ أبعادًا نفسيّةً سيّئةً أوّلها الإحباط أمامَ رفضِ الرّئيس التّجاوُبَ مع أيِّ تخيِيلٍ يُحاوِلُونَ إيقاعَهُ في تصوُّراتِ ذهنِهِ، ليسكُنوا في مجال اهتِمامه، أو لِيسكُنَ في هُمومِ تخيُّلاتِهم لما سيأتي، مُنكسِرينَ أمامَ جبروتِ شخصٍ يعرِفُ كيف يُخيِّلُ ويُوهِمُ، ويعرِفُ متى يُسكِّنُ تخيُّلاتِهِ وإيقاعَ التّوهُّم في خَلَدِه، كيلا يتبَعَ عاطفتَهُ بأنْ تتغلّبَ عليهِ الإيهاماتُ والتّخيِيلاتُ المُرسَلَةُ إليهِ من جُنُودِهِ.
إيقاعُ التّخييل والتّوهُّم
يَتّضِحُ من ذلكَ أنَّ إيقاعَ التّصوُّرِ؟ التّخيُّلِ في ذهنِ الآخرِ أقوى من التّصوُّرِ نفسه؛ لأنّ إيقاعَ التّصوُّرِ هو الفِعلُ الحَركِيُّ الّذي يحتوِي ديناميّةَ تحقِيقِ الغايةِ المقصُودة من بِناءِ هذا التّصوُّرِ المضغوطِ في مصطلحٍ وصفِيّ ك«الإرهاب»، فحِينَ تأمُّلِ قولِ مُورّيس بارِّيس ( Maurice Barrés) (1862-1923): (ثمّة، في الشّرق، شعورٌ حول فرنسا هو من الدِّينيّة والقُوّة بحيثُ إنّهُ قادِرٌ على أنْ يَتمثَّلَ، ويُصالِح بين، تطلُّعاتِنا الأكثر اختِلافًا وتنوُّعًا، ففي الشّرق، نُمثِّل نحنُ الرّوحانيّة، والعدالة، وفُصلَةَ المثاليّ.
إنّ إنكلترا قويّةٌ هناك، وألمانيا قويّةٌ قُوّةً كُلّيّة، إنّما نحنُ نمتلكُ الأرواحَ الشّرقيّة يتّضحُ أنَّ التّصوُّر التّعظِيميَّ لفرنسا، وإنكلترا، وألمانيا ليس هو صاحب الفاعليّة الأكبر في التّأثير على الشّرقيّين وامتلاكهم، إنّما إيقاع التّصوُّر؛ أي الطّريقة الّتي تخيّلوا بها حدوثَ هذا التّصوُّر في أذهانهم، والأبعاد الحركيّة الّتي سوف تُتاح له، وحصرها بارِّيس هُنا في: التّمثُّل والمُصالَحة رغمَ التّناقُضات والمَقاصِد الاستعماريّة الشّرّيّة الّتي تُوجِبُ انعِدامَ انفتاحِ هذهِ الأبعاد الحركيّة لتصوُّر القُوّة الأوروبّيّة في أذهان الشّرقيّين.
مثل ذلك وَسوسةُ الشّيطان لابن آدم، فهي إيقاعٌ خَفِيٌّ للتّصوُّراتِ مَدْفُوعٌ بإِغراءٍ ذِي صيغةٍ إيجابيّةٍ أحيانًا: {مّا أّظٍنٍَ أّن تّبٌيدّ هّذٌهٌ أّبّدْا} ، قالَ لهُ الشّيطانُ: قُلْ...، تصوَّر خُلُودَ جنَتِكَ كأنَّكَ المالِكُ للقَدَرِ لا ربّك؛ لأنَّكَ تَستحقُّ هذهِ النَّعماء، صَوِّر هذا الخُلُودَ لِغيرِك، وأوقِعْهُ في نُفوسِهِم، أو بِصيغةٍ سلبيّةٍ .
وبما أنَّ مُوقِعَ التّوهُّم في خَلَدِ الآخر أعمقُ وأبعدُ نظرة؛ لأنَّ لديهِ هدفًا يُريدُ إيصالَ الآخر له، نهايةً يُريدهُ أنْ يرتمِيَ فيها؛ فقد تَبرَّأَ الشّيطانُ، وهلكَ الاثنانِ البشريّان، وكان الشّيطانُ ثالِثهُما.
وبالطّريقةِ ذاتِها تدفِنُ أمريكا نفسَها، وتقرُبُ منَ الاحتِضار.
إيقاعُ التّصوُّرِ والإيهامُ بهِ مَكْرٌ لا يقومُ بهِ أحد إلاّ على أسوءِ وُجوهِ المكْر، بِحَفْزِ تخيُّلاتِ السُّوءِ عن الذّاتِ المُسلِمة. وهذا المكْر هو أداةُ إرباكِهِم للمُسلِمين، ولربّما هزيمتهم إيّاهم، وفي الوقت نفسِهِ هو أداةُ إهلاكِ اللهِ لهم؛ فضِيقُ الصَّدْر والتّصعُّد في السّماء يُمكِنُ أن يكونَ ضِيْقَ التّفكير، وحصره في تصوُّرِ موضوعٍ واحدٍ وتوهُّمِهِ، تتردّدُ فيهِ وعليهِ الأفكار وحُرقات المشاعر وحده، حتّى تتراكم من كثرتها ومن انحِشارها في وضعٍ عمُودِيّ يَحفِرُ في مَوْقِعٍ واحد، حتّى لَيَتآكَلَ العقلُ وصفاؤُه، وتضِيْقَ النّفسُ وتكتئِبَ من انحِباسِها في ضنكٍ واحدٍ أسقُفُهُ، وجُدرانُهُ، وأرضيّاتُهُ مثلُ بعضها، لا فارِقَ بينها، وهذا طريقُ اختِلالِ العقل ووظائفه من تحليلٍ، وتنظِيمٍ، وغَربلَةٍ، وتقوِيمٍ؛ فإذا استسلمَ المُسلِمونَ لهذا المكر، ووقعُوا في هذا الشَّرَك؛ أي توهُّمِ حالٍ واحِدٍ هو وحشيّتهم وِفْقَ تصوُّر أمريكا أو غلَبَة أمريكا وقهرها لهم لا محالة، فلن يتقدّمُوا، وإنّما سينتكسُونَ على أعقابهم، أو يبقونَ في مكانهم. لكنّهم باستمرار الدّوران حول موضوعٍ واحد، اتّهامٍ واحِد، مكرٍ واحد.. سيحفِرُونَ حُفرةً تكادُ تَلْفِظُهُمْ مِنْ قَلْبِ الأرضِ كُلِّه إن لم يحذروا.
التّكْتِيْل وقُوّة التّخيِيل وإيقاع التّوهُّم
لقد بدا واضِحًا خطرُ التّكتِيلِ الّذي يُظلِّلُ في جَوْفِهِ تَخْصِيصًا حادًّا، وعمًى مقصُودًا لإخفاءِ عَيْنَيْ زرقاءِ اليمامة الثّاقِبَتَين.
إذا كان الأمريكيُّون (وغيرهم من الأوروبِّيِّين المُتعصِّبين الاستعماريِّين) يَنظرون للمسلمين كَكُتلَةٍ غيرِ مُمَيَّزَةٍ كما سبق، إلاّ أنّهم في الواقع؛ أي خارج نِطاق مُمارسة الكِتابة الصّحفيّة والأكاديميّة الاستمتاعيّة، ينظرونَ إلى المسلمين في أصغرِ ذرّاتِهم كأفراد، وليس ككياناتٍ مُتكتِّلَةٍ غيرِ مُتمايِزَة، يجمعها دينٌ أو قوميّة، خِلافًا للتّكتِيلِ التّعميميّ التّسطِيحيّ الّذي تُظهِرُهُ كتاباتهم؛ فهُم يستفيدونَ من إنشاءِ ولَمِّ كيانِ تكتِيلٍ تَخصِيْصِيّ تَعمِيْقِيّ مَكّنهم من التّغلغل في خلايا المُجتَمَع، خُصوصًا الشّباب بِطُرقٍ مُتعدِّدةٍ تُحيلُ إلى ضرورةِ حَذَرِ المسلمين من مُمارَسةِ التّعميمِ بشكلهِ العاديّ الخالي من محمولاتِهِ الخاصّة ومن فُنون لُعبةِ التّكتيل الأمريكيّة، من خلال تكدِيسِ أعداء المسلمين في مصطلح «الغرب» أو «الاستشراق»؛ إذ هُناكَ قِطَعٌ من الغرب لا تحملُ للمسلمين العِداء، وهُناكَ قِطَعٌ من الغرب مُسلِمةٌ لا يشملها الوصفُ كمُقابِلٍ مُضادّ ل«الشّرق «المقصودِ بهِ» الإسلام؟ البلاد الإسلاميّة، وكذلك الأمر بالنّسبة للاستشراق، فهناك استشراقٌ هُوَ مَطِيّةٌ للاستعمارِ قَصْدًا، وهُناكَ استِشراقٌ بعيدٌ عن ذلك، يُمارِسُهُ أصحابُهُ من باب الاستمتاع بموضوعٍ يتجدّدُ باستمرار، ولهُ صدارته، وكذلكَ مميِّزاته على الصّعيد الوَظِيفِيّ، والتّنصِيبِيّ، أو التّقدِيريّ عُمُومًا.
ولكشفِ إحدى حِيَلِ التّكتِيْلِ التّعمِيمِيّ ظاهِرًا التّخصِيصِيّ باطِنًا يُمكِنُ تأمُّلُ قولِ أحدهم عن شباب العرب (المسلمين وغيرهم): (ينبغي القول إنَّ الشّبابَ المُتعلِّمَ والجاهلَ في البُلدانِ العربيّة خِلالَ هذهِ الفترة، بحماستِهم ومثاليّتِهم، أصبحوا تُربةً خِصبةً للاستغلال السّياسيّ، ورُبّما دونَ أن يُدرِكُوا ذلكَ أحيانا، أدواتٍ في أيدي المُتطرِّفين والمُحرِّضِين الّذين لا يرتدِعُونَ عن شيء).
هنا، عمليّةُ إيقاعِ توهُّمٍ أو تخيُّلٍ في ذِهنِ غيرِ العربيّ؟ غيرِ المُسلِم لحقيقةِ الشّباب المخطُوفِين بحماستهم لِيكُونوا عَضُدًا للمُتطرِّفِين الّذين ينتسبون للإسلام، فليس الأمر في وصفِ التّطرُّف مقصُورًا على السّياسة أو مُركِّزًا عليها، بقدر ما هي طريقٌ للنّيل من الإسلام ومَن يَعتَلِقُ بهِ من أصحابِ التّوجُّهاتِ السّليمة بتحريضِ الاتّجاهات غيرِ السّليمة بما فيها من مُبالغاتٍ في التّقعُّر، والتّعنُّت، أو الانفساخ من الإسلام: لُحمةً وسُدى.
هذا الإيقاع لا ينعكِسُ ولا يسكن أذهان غير المسلمين فقط، إنّما هو صياغةٌ للرّغبة المُخفاةِ عندَ الكاتِب والشّريحة الّتي يتبعها، هي صياغةٌ مقلُوبةٌ هدفُها أنْ تدفعَ الشّخصَ المُتحدَّثَ عنهُ (شباب العرب المُسلمين) لا شُعوريًّا إلى تحقيقِ الرّغبة؛ ظنًّا منهُ أنّهُ نفى التّصوُّر المُتكتِّل.
إنّ هؤلاء الشّباب الّذين «لا يرتدِعُونَ عن شيء» هُم إرهابيُّون، مُتوحِّشُون، ناقِصُو التّكوِين، وبكثرةِ الهرْج والمَرج حولَ دعوى «الإرهاب الإسلاميّ» رأى بعضُ شبابِ المسلمين الجُهّال بِدِينِهم هداهُم الله ذلكَ مِدحةً ومُغامرةً تصنع منهُم (أي الشّباب) شيئًا لافِتًا للخِطاب الغربيّ، بل موضُوعًا للسّاعة، لقد أوهمُوهُم (الأمريكيُّون المُتعصِّبُون والمُتطرِّفون المُنتسبون للإسلام زُورا) بأنّهُم محكومُونَ غدرًا وعَنتًا من حُكّامِهِم الّذين يراهُمُ الغَربيُّونَ مثالاً لمن لا يرعى مَصالِحَ الأُمّة، فلا بُدَّ أن ينعتِقُوا من ذلك: إمَّا بالثّورة على حُكّامِهِم، أو بالثّورةِ على مُصدِّرِيْ هذا الخِطاب المُتطرِّف وتَبَعِيَّتِهِم من وِجهتَين:
1- وِجهةٍ شُعُوريّةٍ: تقصِدُ عمدًا تَبَعِيّةَ هؤُلاءِ الدّاعِين للانفصالِ والانشِقاقِ عن السُّلطان الحاكم بأمر الله.
2- وِجهةٍ لا شُعُوريّة: لا تقصِدُ إلاّ الخُروجَ من الحَبس الّذي أوقعَهُ ذلكَ التّخيِيل، وبما أنَّ الإنسانَ لا يعيشُ في فوضى مُنعتِقًا من أسْرِ حُدودِ الزّمانِ، والمكانِ، والجاذِبيّة الأرضِيّة، فلا بُدَّ من دُخُولِهِ فِي حِمى حبسٍ آخر ذِي سُلطةٍ يتبعها، وتُصفِّقُ له، وتُقدِّره.. ولا يُوجَدُ سِوى حبسِ أصحابِ الخِطابِ الانتقاديّ التّوهِيمِيّ، لا سِيّما إنْ اكتسى الخِطابُ بشيْءٍ منَ العِلمِيَّةِ، والمِصداقِيّةِ، والواقِعِيّةِ بكونِهِ وارِدًا في سِلسلةٍ عن تاريخٍ للإسلامِ وأهله، ولا سيّما أنَّ التّوهُّمَ المُوقَعَ لهُ دِيناميّةٌ يَعملُ بها، ويُؤثِّر في التّفاعُلات المُستقبليّة المُتأثِّرَةِ بهِ حسْبَ المُخطَّطِ له، أو حَسْبَ الّذي جرى إعدادُ المُركَّبِ التّخْيِيْلِيّ بِناءً عليه.
من مُلاحظةِ تكرُّرِ مصطلحِ «التَّصوُّر»؟ «التَّخيُّل» و«التّصوِير» أو «التّخيِيل» يُمكِن إزاحةُ الغِطاءِ عن فلسفةٍ لُغوِيّةٍ للمُصطَلَحَين:
1- «التّصوُّر»؟ «التَّخيُّل» على وزن تفَعُّل (Imagination) يكشِفُ عن وُجُودِ طرفٍ واحدٍ فقط، يفعل من ذاتِه، يتخيَّلُ من ذاتِه، ويتذكَّرُ ويُؤوِّلُ الأشياء.
2- «التّصوِير»/ «التّخْيِيْل» على وزن تفعِيْل Making Imagination)) يكشِفُ عن وُجودِ طرفَين: طرفٍ أوّلٍ يفعل، ويضغط على الآخر لِينفَعِلَ بما يستحدِثهُ وما يُريد أو يُحاوِلُ إيقاعَهُ في توهُّمِه؛ طرفٍ ثانٍ واقِعٍ تحتَ الضّغط ولُزُومِ الانفعال سلْبًا أو إيجابًا ، فهو يُفعَلُ بهِ، وهو يتفاعل معهُ وبأداتِه؟ إيهامه.
وهذا الطّرف واقِعٌ تحتَ قُوّةِ ضغطٍ، وقهرٍ، وتوجيهٍ، وتأثيرٍ، وخلخلَةٍ من صُنْعِ مشرُوعِ الطّرفِ الأوّل.
تجرّ تلكَ الإشارات إلى تأمُّلِ طُرُقِ السّيطرة على الآخَر عن طريقِ تَخيِيْلِ صورةِ ذاتِهِ له، وذلك بطريقتَين:
1- إيجابيّةٍ: مدحُ خيرِهِ أو شَرِّه.
2- سلبيّةٍ: نَقْد وهِجاء خيرِهِ أو شرِّه.
والمقصُود بالطّريقتين هُما الصِّياغَتَان اللَّتَان تأتِيانِ بها، وليس تقويم الصّيغة شَرعِيًّا أو أخلاقِيًّا.
بهذه الصِّيغ، سيبقى الآخرُ أسِيرَ إثباتِ، أو نفْيِ، أو أحلامِ يقظةِ ولا وعْيِ ذلك؛ أي التّوهُّم أو التّخيِيل الّذي قامتْ بهِ صيغةُ الشّخصِ القاصِدِ لإيقاعِ الصُّورةِ المُنتَقاةِ في ذِهنِه إنْ لمْ يَكُنْ لديهِ الوَعْيُ بهذا الأُسلُوبِ- التِّقنِيةِ وأبعادِه.
ومثال ذلك يُمكِنُ أنْ يُطرَحَ من مَذهَبَين:
1- مذهبِ الشّيطان، وقد سبقَ عرضُهُ في التّعرُّض لآية {قّالّ مّا أّظٍنٍَ أّن تّبٌيدّ هّذٌهٌ أّبّدْا} وَ{كّمّثّلٌ الشَّيًطّانٌ إذً قّالّ لٌلإنسّانٌ اكًفٍرً} ؛ حيثُ اتّضحَ أنَّ الشّخصَ المُؤثِّرَ بإيقاعِ التَّوهُّمِ لديهِ تصوُّرٌ أعمق: قَبْلِيّ، آنيّ فِعلِيّ، تاليِ فِعليّ ذِهنِيّ، وجاهز للتّملُّص، فيما المُتأثِّر بهذا الإيقاع لا حُدودَ لديهِ أبعدَ من الآنيّ الاستفزازيّ، والتّالي المُستفَزّ، وينحصِرُ في هذا الشّخص ومُجاهدتِه، أو عبادته وزيادة تقديره.
2- مذهبِ الله: يُمكِنُ استجلاؤُهُ من خلال تحليل قوله تعالى: {لّقّدً خّلّقًنّا الإنسّانّ فٌي أّحًسّنٌ تّقًوٌيمُ} .
أوقعَ تعالى في خَلَد تَصُوَّرَ حقيقةٍ إلهيّةٍ هيَ حُسْنُ الخِلْقَةِ المُطلَقة للإنسان، فمهما كانَ لونُهُ، أو حَجمُهُ، أو تَفاصِيلُهُ، فقد امتدَحَ اللهُ لهُ جمالَ هيئتِهِ ونِظامَ جسدِهِ وخِلقتِهِ هذه. حُسْنُ الخَلْقِ منهُ الظّاهِر الّذي يُدرِكُهُ أيُّ إنسان، ومنهُ الباطن الّذي لا يُدرِكُهُ إلاَّ مَن أُوتِيَ نعمةً إلهيّةً مِن عُمْقِ تَذَوُّقِ الخِلْقَةِ الإلهيّة للجمال الكامِن تحتَ ما قد يَعتبِرُهُ البشر عاهَةً، أو عَيبًا، أو نَقْصًا، أو اختِلالاً؛ فالمُعاق قد يُثِيرُ في سَطْحِيِّيْ الإدراك للجمالِ الإلهيّ الأخفى شيئًا منَ الاشمئزاز والنُّفُور، بل الوصف بالقُبح. فيما يجدُ فيه عمِيقُ البصيرةِ والتّفكُّر في أسراره تعالى شيئًا يجذِبُ خَفْقَ اللُّبِّ بتَسبِيحِ اللهِ وحَمدِه، ليسَ استِعابةً أو استِشعارًا للقُبْح، وإنّما لأسرارِ الجمالِ والبَراءة الرُّوحانيّة الّتي كسا بها جَوْفَ هذا الإنسان المُبتَلَى.
ورغم هذا، فهوَ يمشِي بينَ النّاس ويخرج إليهم ويَراهُم كأنّهُ يحتفِلُ بهذا العطاءِ الرّبّانِيّ، ويُشهِدُ النّاسَ عليه.
منهجُهُ تعالى في هذه الآية إيجابيٌّ، يُثِير في المُتأثِّر على مدى بعِيدٍ حُبَّ البحثِ عن أسرارِ هذا الإقرارِ بجمالِ كُلِّ إنسانٍ بشكلٍ مُطلَقٍ أبدا، فلَو وَعَى الإنسانُ هذهِ الحقيقةَ في جَوهرِها، لَتَصوَّرَ وتَخيَّلَ جمالَهُ الّذي وهبَهُ الله، فكُلّما كان أخفى وألزَمَ للبحث الجادِّ والتّعمُّق، كُلّما كبرت النّعمةُ فيهِ والاختِبار، لكنْ إِنْ زادَ الإنسانُ في تَصوُّرِهِ فوقَ الحقيقة.. وَصَلَ لِلإعجابِ والغُرور، ودخلَ في مُستَنقَعِ تَصوُّراتِ الشّيطان.
إنَّ طبيعةَ النّظرةِ الدُّنيويّة هيَ السّطحيّة، والمُفاخَرَة، والتّعالِي، وبالتّالي، هيَ تَنازُعٌ في الجمالِ وتَعالٍ في مَراتِبِهِ الظّاهِرة للنّاس فقط. والإعْجابُ مَقرُونٌ في الآياتِ الإحدى عشرةَ الّتي وردَ فيها في القُرآن الكريم بتحذيرِ اللهِ من اتّباعِه؛ لأنّهُ مِفتاحٌ لِلشّهوةِ الشّيطانيّة الدُّنيويّة، كذلك، إنْ نزلَ الإنسانُ عن حَدِّ الحقيقة الوسط، فأخذ اللهُ من جمالهِ الخارِجيّ الظّاهر للنّاس مِقدارًا عظيمًا أخفاهُ في رُوحِه؛ اختِبارًا لهُ وابتِلاء، لكنّهُ لا يَستشعِرُ إلاّ أنَّ اللهَ تعالى أَهانَهُ، فيَتخيَّل، ويَتوهّم، ويَظلّ مُتصوِّرًا أبدًا أنَّهُ قَبِيحٌ مُهانٌ عن باقي البشر عادِيِّيْ أو جَمِيلِيْ المظهر الخارجيّ؛ أي قِشرة ولُحاء الجوهر الرّوحيّ والعَقلِيّ.
*ر15ر* وّأّمَّا إذّا مّا ابًتّلاهٍ فّقّدّرّ عّلّيًهٌ رٌزًقّهٍ فّيّقٍولٍ رّبٌَي أّهّانّنٌ}.
«وهذهِ صِفةُ الكافر الّذي لا يُؤمِن بالبَعث، وإنّما الكرامةُ عندهُ والهَوانُ بكثرةِ الحَظِّ في الدُّنيا وقِلّتِه، وأمّا المُؤمِن فالكرامةُ عنده أنْ يُكرمهُ اللهُ بطاعتهِ وتوفِيْقِه المُؤدِّي إلى حَظِّ الآخرة، وإنْ وَسَّعَ عليه في الدُّنيا حَمدَهُ وشكرَه...، وإنّما أنكرَ تعالى على الإنسان قولَهُ {رّبٌَي أّكًرّمّنٌ} وقولَه {رّبٌَي أّهّانّنٌ}؛ لأنّهُ إنّما قال ذلك على وجْهِ الفخر والكِبر، لا على وجْهِ الشُّكر، وقال: أَهانَنِ على وَجْهِ التّشكِّي منَ الله وقِلّة الصّبر، وكان الواجب عليه أن يشكرَ على الخير، ويَصبِر على الشّرّ،...
يتبع
|