هل تمازج أمريكا بين مشروع مدريد وفرضية الضومنة أم أنها تهدف من وراء مشروع مدريد إلى تحقيق فرضية الضومنة.
لقد تقدم وزير خارجية أمريكا بمشروع عُرف فيما بعد بمشروع مارشال وذلك لإعمار أوربا بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، وها نحن اليوم نجد مشروعاً جديداً لإعمار العراق، هذا المشروع يتمثل في مؤتمر مدريد الذي انعقد قبل قرابة أسبوعين والهدف من ورائه هو جمع التبرعات لإعمار العراق، وربما يطلق عليه فيما بعد مشروع باول.
أما فرضية الضومنة فقد كنت أشرت في مقال في جريدة الجزيرة منذ أكثر من عامين عن التدخل الأمريكي في جنوب شرق آسيا وبالتحديد في فيتنام.
كان ذلك التدخل لمنع انهيار حجارة الضومنة والذي كانت تنظر إليه الولايات المتحدة الأمريكية بأنه يتمثل في دول جنوب شرق آسيا.
إن تدخل الولايات المتحدة الأمريكية في فيتنام جاء لمنع المد الشيوعي إلى دول جنوب شرق آسيا، اعتقدت بأن المد الشيوعي إذا طال فيتنام فإن بقية دول جنوب شرق آسيا كالفلبين واندونيسيا وماليزيا وسنغافورة سيطالها هذا المد وبسرعة وستنهار هذه الدول وغيرها بسرعة انهيار حجارة الضومنة.
لقد رمت الولايات المتحدة بكل ثقلها العسكري في فيتنام لتضع حدا للمد الشيوعي، وكانت مصممة كل التصميم على ذلك، كانت تعتقد أن الأمر سيكون سهلا أمام أمة فقيرة لا تملك من المقومات العسكرية ما يجعلها تصمد أمام القوة الأمريكية لفترة طويلة، ولكن اختلت موازين التوقعات وخرجت أمريكا مهزومة شر هزيمة من جنوب شرق آسيا.
إن المقاومة العراقية أو الإرهاب كما يحلو للبعض تسميته في سياق موجة الحرب على الإرهاب بدأ يؤرق ويوقظ بعض الساسة في الولايات المتحدة الأمريكية، بل بدأ يوقظ الشعب الأمريكي ويذكره بفاجعة فيتنام.
أعتقد أنه أمر طبيعي أن يوقظ ما يحصل في العراق من مقاومة وينبه الساسة والشعب الأمريكي.
كما أنه من الطبيعي أيضا أن يوقظ العراقيين وينبههم إلى ذلك الذي حصل في فيتنام.
إن ما حصل في فيتنام هو درس تاريخي في القسوة والعنف والوحشية الأمريكية وهو في نفس الوقت درس تاريخي أيضا في المقاومة والإرادة والتضحية من أجل الوطن.
بدأت أمريكا بنشر قرابة 23000 جندي عندما بدأت الحرب على فيتنام في عام 1963م ولكن هذا العدد ازداد ليصل إلى أكثر من نصف مليون جندي أمريكي في عام 1968م.
كان السلاح الجوي هو العمود الفقري للجيش الأمريكي حيث بدأت أول غارة أمريكية بأمر من الرئيس جونسون في نفس العام على فيتنام الشمالية.
لقد أُلقيت على فيتنام الشمالية من القنابل ما يفوق ما استخدم في الحرب العالمية الثانية.
يقال إن كل ميل مربع في فيتنام بشطريها أسقط عليه ما مجموعه 22 طناً تقريبا من القنابل والمتفجرات، حيث اسقط على فيتنام ما مجموعه سبعة ملايين طن من القنابل والمتفجرات، وبحسبة أخرى كان نصيب كل فرد من سكان فيتنام في ذلك الوقت أكثر من 150 كيلاً من المتفجرات.
كانت حصيلة القتلى من الفيتناميين تقترب من ثلاثة ملايين نسمة ناهيك عن الجرحى والذين بالتأكيد هناك نسبة كبيرة منهم أصبحوا معاقين.
ربما لا يدرك الشعب العراقي في معظمه حجم هذه الخسائر التي ضحى بها الفيتناميون من أجل وطنهم ولكنهم يدركون أن الفيتناميين قاوموا الغزو الأمريكي وانتصروا في نهاية الأمر.
ربما لا يدرك معظم الشعب العراقي السبب الحقيقي الذي غزا الأمريكيون العراق من أجله، السبب الظاهري هو تدمير أسلحة الدمار الشامل والسبب الظاهر الإضافي هو تحرير العراق من دكتاتورية النظام العراقي. إن الشعب العراقي ومن بيده الحل والربط أو من يعتقد أنه يفكر في مصلحة العراق من العراقيين هم من سيقيّم أسباب الغزو الأمريكي الحقيقية وهم من سيقرر المواقف الواجب اتخاذها لكي يعود العراق حرا مستقلا ذا سيادة ومكانة دولية.
الامريكيون ساسة وشعبا بدأوا يدركون تعقيد الوضع في العراق.
التصريحات بدأت تتزايد يوما بعد يوم بأن ما يجري هذه الايام في العراق من مقاومة لم يكن متوقعا.
كما أن التصريحات بدأت تتزايد بأن أمريكا لن تنسحب ولن تتراجع عن خططها مهما كلفها ذلك من ثمن، التصريحات أيضا تؤكد أن الحرب ستطول على الإرهاب وبأن مركز الإرهاب أصبح في العراق، وهذا يعني أن بقاءهم سيطول.
ورغم كل هذه التصريحات إلا أن ما حصل للأمريكيين في فيتنام لايزال قابعا في زوايا العقل الأمريكي، ويبدو أن هناك استفزازاً بدأ يقض مضجع هذه الزوايا، لن ينسى الشعب الأمريكي ضحاياهم في فيتنام والتي بلغت عشرات الآلاف من القتلى وعشرات الآلاف من الجرحى، لن ينسوا الخسائر المادية التي كانت تكلف الخزانة الأمريكية قرابة الثلاثين مليار دولار سنويا طيلة سنوات الحرب في فيتنام، لن ينسى الأمريكيون الهزيمة المرة التي لحقت بهم في فيتنام. إن هذا التذكر ربما يدفع الأمريكيين إلى واحد من ثلاثة أمور.
الأمر الأول هو استخدام الشدة والعنف في قمع العراقيين وارهابهم وربما العمل على تفريقهم وتقسيم العراق وإراقة الدماء في محاولة لإخضاع العراقيين وقد تكون نتائجه غير مضمونة.
أما الأمر الثاني فيتمثل في محاولة إيجاد مخرج بشكل مبكر والتسريع في نقل سلطة حقيقية للعراقيين ومحاولة ايجاد مصالحة وطنية وإعادة المطرودين من الجيش والشرطة والمؤسسات الحكومية وحفظ كرامة العراقيين وهذا أمر ممكن، ولعل مؤتمر مدريد لجمع التبرعات لإعمار العراق يصب في هذا الاتجاه. إن جمع مليارات الدولارات ربما يكون شبيهاً بمشروع مارشال لإعمار أوربا بعد الحرب العالمية الثانية، ولكن هل يمكن إيجاد آلية سليمة للتعمير؟ هل سيكون هناك شفافية في إبرام العقود؟ يبدو أن هناك ميلاً لمكافأة الشركات الأمريكية وحصولها على النصيب الأوفى من العقود، وهي عقود بلا شك سيكون هناك مبالغة فيها.
أمريكا ساعدت أوربا بعد الحرب العالمية الثانية دون مقابل تذكر إلا ربما في التوجهات والولاء، ولكن المساعدات الأمريكية هي ديون لن يقوى العراق على سدادها وسيبقى العراق في وضع اقتصادي متردٍ، لن يصل إلى مرتبة ألمانيا واليابان ولا أوربا بعد الحرب العالمية.
أمريكا على لسان ساستها وبكل صراحة يراهنون على نجاحهم في العراق ويؤكدون أن فشلهم يعني فشل خططهم الظاهرية وهي إرساء الديموقراطية وتحرير الشعب العراقي.
تصريحاتهم تؤكد أنهم عندما ينجحون في العراق في هدفهم، فان كل رقعة الوطن العربي دون اسثناء ستكون أهدافا لتحقيق تلك الأهداف الظاهرية التي يشار لها بإرساء الديمقراطية، هذا يعني أنها لا بد أن تدخل في حرب ضد كل دولة عربية لكي تحقق الديمقراطية المزعومة.
إن الأمر أصبح واضحا للدول العربية وليست هناك الآن سياسة مخفية والنوايا الأمريكية واضحة، أن أمريكا بهذه السياسة المكشوفة أتاحت للعرب التفكير في نوع المواقف التي ستتخذها تجاه هذه النوايا.
هل ستسعى الدول العربية إلى تحسين وضعها السياسي وإرساء قاعدة شعبية فعالة ومشاركة في القرار السياسي؟
وهل الدول العربية من خلال حكوماتها لديها القناعة الكاملة بضرورة الإصلاح في الجوانب السياسية؟
وهل لدى الدول العربية قناعة بأن هذا مطلب داخلي للشعوب قبل أن يكون مطلبا أمريكيا؟
وهل لدى الشعوب العربية الاستعداد لنبذ العنف وإعادة تشكيل التفكير السياسي لديها بشكل يستوعب المتغيرات ويحافظ على الوحدة الوطنية لكل دولة؟
لابد أن تدرك الحكومات والشعوب العربية بأن أمريكا ترى أن الحكومات العربية هي كالضومنة مرصوصة إذا سقط حجر منها تتابعت الأخرى وهي تهدف إلى ذلك من خلال نجاحها في العراق؟ لقد حرصت على بقاء ضومنة جنوب شرق آسيا مرصوصة ولهذا تدخلت في فيتنام للحفاظ عليها ولكن تدخلها في العراق يعني عكس ذلك.
الأمر الثالث هو الممازجة بين الأمر الأول والثاني ولكنه شبيه بالأمر الثاني في أهدافه تجاه الدول العربية، لاشك أن الأمة العربية تمر بمنعطف تاريخي خطير وحساس يحتاج إلى شجاعة في التعامل مع معطياته ومتغيراته ومتطلباته فهل حان الوقت لذلك؟
|