أركان الإسلام: لم تكن خاصة لأمة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ بل هي شرع الله سبحانه للأمم جميعها، فهي مثل أعمدة الخيمة أو البيت، لا يستقيم البناء إلا بها جميعاً، ومتى سقط منها واحد، انهار جانب من المبنى واختل توازنه. وابراهيم الخليل عليه السلام، هو أبو الأنبياء قال الله تعالى عنه: {إذً قّالّ لّهٍ رّبٍَهٍ أّسًلٌمً قّالّ أّسًلّمًتٍ لٌرّبٌَ العّالّمٌينّ <131>}[البقرة]، ووصى بهذا الدِّين بنيه من بعده، وهو الذي سمَّى أمة محمد بالمسلمين. فكان الإسلام بأركانه هو دعوة الأنبياء لأممهم، فاجتالت بعضهم الشياطين، فعدَّلوا وبدَّلوا في شرع الله، وظلموا أنفسهم، ومن ذلك الصيام الذي كُتِب عليهم، ولما كان هذا الصيام، وفي شهر معين هو رمضان، الذي يأتي حسب فصول السنة، شتاء يشتد فيه البرد فيحتاج البدن إلى طاقة عالية من الطعام، حتى تمده بالدفء ومن ثم المقدرة على مواصلة الصوم، والتغلب على مشاغله في الحياة، مهما اختلفت، ويأتي صيفاً: تلتهب فيه الأرض حرارة مع زيادة في طول نهاره، وخاصة في المناطق الصحراوية والجافة، مما يجعل الجسم محتاجاً إلى أكبر قدر من السوائل والأملاح التي يفقدها الجسم، حسب العوامل الجوية. فإننا نجد النصَّ الكريم من كتاب الله، قد قرن الأمر التكليفي للفئة المؤمنة بأمور ثلاثة: أولها: مخاطبة المكلفين به بصفة الإيمان، وهذا تشريف لأمة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ الملتزمة بشرع الله والمنقادة لأمره سبحانه: طاعة وعملاً، وحرصاً واهتماماً، كما رأينا في سيرة أصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في ملازمة مجلس رسول الله لمعرفة كل جديد يكلفون به، وسرعتهم في العمل وإبلاغ أهاليهم إذا رجعوا إليهم حتى يستجيبوا لله ولما دعاهم إليه الرسول، والمبادرة بالتطبيق، لأن المؤمن هو المصدِّق المستجيب.
ثانيها: بعدما اشرأبت أذهانهم لتلقي ما وراء النداء، وهذا من أبلغ الأساليب في التهيئة لحسن الاستجابة للأمر المراد إبلاغه، حتى يرسخ في قلوبهم ما فرض على من كان قبلهم، فعدَّلوا عليه وتحايلوا وهو رمضان الذي فرض على الأمم السابقة، فالتزم منهم بعض وخالف الأكثر، ثم يأتي الأمر الثالث: وهو اقتران الأمر بالتقوى، التي هي مراقبة الله في السر والعلن، ولعل: من الله أمر بالتقوى، فالغاية من الصوم التقوى، التي هي قمة الإيمان وأعلى مراتبه، فإن هذه قد جعلها الله بالأمر التشريعي لرمضان وفرضه، يقول سبحانه:{يّا أّّيٍَهّا الذٌينّ آمّنٍوا كٍتٌبّ عّلّيًكٍمٍ الصٌَيّامٍ كّمّا كٍتٌبّ عّلّى الّذٌينّ مٌن قّبًلٌكٍمً لّعّلَّكٍمً تّتَّقٍونّ <183>} [البقرة] . ولما كان الصائم مطلوباً منه اقتران صومه بالتقوى: فلأن هذه العبادة البدنية يجب أن يحرص عليها المؤمن، لأنها من أحب الأعمال إلى الله، ومن أفضل العبادات: لأن الصائم لو لم يتق الله، وكان في صيامه يريد معرفة الناس بعمله، فإنه إذا خلا بنفسه، وفي عقر داره بعيداً عن الرقباء، يستطيع أن يأكل ويشرب ويمتّع نفسه بملذاتها ورغباتها، لكن التقوى تمنعه ومراقبة الله في هذا تحجزه عن تدنيس هذا العمل. فيحرص في صيامه أن يتَّبع الأوامر ويحافظ عليها، الممكِّنة لصومه، ويمتنع عن الزواجر والنواهي المفسدة لذلك الصوم، برقابة ذاتية قوية، هي رقابة التقوى التي أمر الله الصائم بها، ومن ذلك حفظ اللسان عن الغيبة والنميمة وقول الزور والكذب، ومنع النفس عن الأكل والشرب والشهوات النفسية من جماع وغيره، فحفظ اللسان يكون بصفة دائمة حتى يتعود على هذا السلوك بعد رمضان كدرس من دروس رمضان وفوائده، أما شهوات النفس المباحة، ورغبات البدن التي بها قوامه فإن الله سبحانه العالم بالقدرة البشرية، قد خفف عن عباده المستجيبين الصائمين بأن جعل ذلك مباحاً في الليل من غروب الشمس حتى طلوع الفجر، والإفطار للمريض والمسافر وغيرهما والصيام في أيام أُخر. ويأتي من تهذيب النفس في فضائل رمضان الكثيرة تفسير العلماء «لقول الزور والعمل به»: بأن قول الزور كل فعل محرَّم. فكان من فضائل رمضان، منها ما هو ديني: بقوة القلب، وتقوى الله، لأن الصائم يترك ما تطلبه نفسه من الملذات رغبة في ثواب الله، وخوفاً من عقابه، لأن قوة القلب، وتقوى الله جعلته يراقب الله ويخافه، لأنه سبحانه هو الرقيب عليه، فكان لا يخاف من سلطة البشر ولا مداراتهم، لما للبشر من أساليب للتحايل، ولكن التقوى قيدته بالمحافظة على أوامر الله، واجتناب نواهيه، باطمئنان قلب، وراحة نفسه. ومنها ما هو جسماني: لما اكتشفه الأطباء من مصالح علاجية لكثير من الأمراض، حيث تنتظم مواعيد الغذاء، ويقل تناول ما له أضرار جانبية كالدهون فتخف السمنة والكولسترول في الدم، وينصح الأطباء أصحاب بعض الأمراض كالكبد بالصوم، كما أن فيه فرصة لمتعاطي الأمور الضارة بالبدن والمحرمة شرعاً: كالمخدرات والمسكرات والدخان بالتقليل أو تركها مرة واحدة بسبب المحافظة على الصيام وتقوى الله، فلا يخرج رمضان لمن ثبت على برنامجه إلا وقد وجد الاستعداد للترك نهائياً. وفي الاهتمام بالصلاة في أوقاتها، وصلاة التراويح المرتبطة بالصيام فوائد لمن يشكو من روماتيزم المفاصل ومن به تشنجات عصبية من قلة الحركة ليخفف الله عنه ما يشكوه، وتنشط مفاصله وأعصابه. وغير هذا من أمور يؤيدها القول المأثور: «صوموا تصحوا»، يأتي منها الاجتماعي بالتآلف والتزاور بين الناس، وتفقد بعضهم البعض، محبة وتوددا، وتفقداً وإحساناً، فالفقير يعتبر هذا الشهر مكسب رزق، لما يرجوه من عطف الموسرين عليه، والغني يراه فرصة لينقي ماله، بأداء حق الله زكاة وصدقة، وبراً وإحساناً، والمتخاصمان يجدان في رمضان أكبر مناسبة لصفاء النفوس، ونسيان الأحقاد، ليتم التواصل، وتوصل الأرحام التي نزغ الشيطان بين الناس بسبب شيء لا قيمة له، وكبَّر حجمه، ما أوقده عدو الله، من شحناء وتباعد، نتيجة التحريش، وإفساد ذات البين، كما أن من فضائله ما يعود على الأفراد بتحسن أخلاقهم، وتقارب قلوبهم بالمحبة، وأجسادهم بمتابعة العبادة، إذ كان من فضل الله ما أودعه سبحانه في رمضان من حب في الخير ودعوة إليه، وملازمة للمساجد، قراءة لكتاب الله، وتدبراً لمعانيه، ومرابطة في جميع الأوقات في انتظار الصلاة بعد الصلاة، وتلمساً لأحوال الآخرين: إن كان قريباً أو شيخاً كبيراً فيزار، وإن كانت أرملة فيجاد عليها وعلى من تحت يدها، وإن كان مريضاً فيؤدى لرخصة بالزيادة والمواساة، كما تؤدى مع ذلك حقوق المسلم على أخيه المسلم التي أخبر عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم. أما الفوائد التي تنعكس على نفسية الصائم في رمضان، وهي من فضائل هذا الشهر، فهي الراحة النفسية، وراحة البال والقناعة بمكانة هذا الشهر عند كل مسلم، حيث تطمئن القلوب، وترتاح الأفئدة من كل ما يؤرقها، وما أجمل تأدية العمل، وكثر نفعه، إذا كانت النفس راضية به، والمشاعر متعاطفة معه، وهذا ما يحصل للأعمال كلها في شهر رمضان لدى المسلمين صغاراً وكباراً، مما يعتبر ميزة لهذا الشهر من بين شهور السنة، وعلل بعض العلماء تخصيص شهر الصوم برمضان لأنه الشهر الذي نزل فيه القرآن، وفيه ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، فكان رمضان اشعاع نور، جعله الله هداية للبشرية، واصلاح دينهم ودنياهم، فأخذ الخصوصية بين شهور السنة من جوانب عديدة، تقبل الله من الجميع صيامه وقيامه. جبلة بن الأيهم: ذكر النويري: أن جبلة بعدما تنصَّر ذهب إلى هرقل فأكرمه، ولما بعث عمر رسولاً إلى هرقل يدعوه إلى الإسلام أو الجزية، فأجابه إلى الجزية، فلما أراد رسول عمر الإنصراف قال له هرقل: اذهب إلى جبلة الذي أتانا راغباً في ديننا. فلما جئت إليه استأذنت فأذن لي، فإذا هو قاعد على سرير من قوارير، قوائمه أربعة أسود من الذهب، فلما عرفني رفعني إلى السرير معه، وجعل يسألني عن المسلمين وعن عمر رضي الله عنه، وأخبرته أنهم بخير وقد كثروا، ثم انحدرت عن السرير، فقال لي: لِمَ تأبى الكرامة التي أكرمناك بها، قلت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن هذا، قال: نعم صلى الله عليه وسلم، ولكن نقّ قلبك من الدنس ولا تبالي على ما قعدت، فلما سمعته يصلي على النبي طمعت فيه. فقلت له: ويحك يا جبلة، ألا تسلم وقد عرفت الإسلام وفضله؟. قال: أبعد ما كان مني؟ قلت: نعم. قال: إن كنت تضمن لي أن يزوجني عمر ابنته، ويولّيني الأمر بعده، رجعت إلى الإسلام. قال: فضمنت له التزويج ولم أضمن له الإمرة. ثم أومأ جبلة إلى خادم كان على رأسه، فذهب مسرعاً، فإذا خدام قد جاؤوا يحملون الصناديق فيها الطعام، فوضعت ونصبت الموائد من الذهب وصحاف الفضة، وقال لي كل. فقبضت يدي وقلت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الأكل في آنية الذهب والفضة، قال: نعم صلى الله عليه وسلم، ولكن نقّ قلبك وكل فيما أحببت. قال: فأكل في الذهب وأكلت في الخلنج إناء من خشب، ثم جيء بطسات الذهب، وأباريق الفضة، فغسل جبلة يده فيها، وغسلت في الصّفر، ثم أومأ إلى خادم فمرّ مسرعاً، فإذا خدم معهم كراسي الذهب مرصعة بالجوهر، فوضعت عشرة عن يمينه وعشرة عن يساره، ثم جاءت الجواري عليهن التيجان من الذهب مرصعة بالجواهر. ثم جاءت المغنيات فغنت إحداهن تغني بشعر لحسان بن ثابت وبكى وأعطاني هدية لحسان وأمرني بدفعه له إن كان حياً، أو لأهله إن كان ميتا، فلما وصلت المدينة أخبرت عمر بخبره وما اشترط عليّ، وما ضمنت له، قال: هلاّ ضمنت له الأمر، فإذا أفاء الله به قضى علينا بحكمه، ثم جهَّزني عمر إلى القسطنطينية إلى هرقل ثانية، وأمرني أن أضمن لجبلة ما اشترط، فلما دخلتها وجدت الناس قد انصرفوا من جنازته، فعلمت أن الشقاء غلب عليه في أم الكتاب.
[نهاية الأرب للنويري 10:314-315].
|