كل نهضة في الوجود في كل أمة مدينة للأدب والادباء، لأن النهضة لا تأتي الا اذا شعر الناس بالحاجة اليها وعملوا من أجلها، وما يذكي الشعور غير الأدباء، فهم الجنود المجهولون الذين يكسبون النصر، وهم الذين يصنعون التاريخ والامجاد وينزلون عن حقهم لمن يسمون قادة، ويلبثون في محاريبهم ويعيشون للأدب.
ان الادباء كرماء يهبون حياتهم للناس ولا يجدون في حياتهم ما هم في حاجة اليه، بل لا يجدون الكلمة الطيبة ومع هذا يبالغون في الكرم لأن نفوسهم مطبوعة على الخير والسخاء والبذل وانهم كالنحلة لا تأكل الا طيبا ولا تنتج إلا طيبا، تأكل الزهر وتنتج العسل.
وان الاديب كالديمة الماطرة تصيب الخصيب من الارض والجديب، وانه كالوردة العطرة يستمتع بشذاها البر والفاجر.
الاديب هو الانسان لانه يعيش بقلب طفل بريء لا يعرف الحقد ولا يضمر البغضاء وتنسيه قطعة صغيرة من الحلوى كل أذى الناس، وتسعده الكلمة الطيبة، ويقنع من الحياة بسعادة غيره، بل يعمل لاسعاد الناس ولو كان في ذلك شقاؤه الأليم.
ومع هذه الخلائق الانسانية الفاضلة تجد الاديب باعث النهضة- كل نهضة حتى لا ترى تقدما في أي ميدان الا كان الاديب صاحبه الاصيل أو الدافع اليه دفعاً- منسياً وبلا تقدير.
ان غزو الفضاء ليس مديناً للعلماء، فقد سبقهم اليه الادباء، فقصة «ديدالوس» و«ايكاروس» أدب، وكانت القصة قبل عصر الميلاد، فالأدباء قد ارتادوا «العوالم» ومهدوا الطريق لمن بعدهم من العلماء.
وفي هذه الايام انطلقت الكواكب الصناعية من الارض تجوب الفضاء، وقدر لبعضها- وهو أحد الكواكب الامريكية- أن يسبح في الفضاء مدة طويلة ويسأل سائل: أترى أن انطلاق هذه الكواكب مدين للادب والادباء؟ ونحن لا نملك من الجواب الا أن نقول: نعم، انه مدين للادب والادباء ولولاهم ما انطلق كوكب، وما تحضرت الارض وتمدن الانسان.
ان الضرورات هي القاسم المشترك بين الانسان والحيوان على السواء وعندما يسمو عليها يتفرد الانسان وكل الضرورات التي نحتاج اليها ولا غنى لنا عنها أصبحت بفضل الشعور الادبي والفني جميلة، فالرغيف ضرورة ولكنه أصبح قطعة من الجمال، فهو في شكل سوار تارة، وعلى شكل نجمة أو هلال تارة أخرى وهكذا لم يصبح غذاء المعدة وحدها، بل صار متعة للنظر وبهجة للعين.
فاذا ابتعدت الضرورات بفضل الذوق الادبي والشعور الفني عن صورتها الحقيقية وأصبحت صورة جمالية فقد عرفنا قيمة الفن في تجميل الحياة.
واذا كان الخبز ملتقى الضرورة والفن فان الكوكب الصناعي مدين للادب والادباء.
لماذا اخترعوا الكواكب الصناعية؟
ليظهروا بالتفوق ويرودوا المجهول، ويفيدوا منها في ارباء الاحساس.
وكل هؤلاء وغير هؤلاء مما يقوم على الشعور الادبي ولولاه لما انطلق كوكب والرغبة في التفوق وارتياد المجهول وارباء الاحساس شعور أدبي لا حيواني، وما الادب الا هذا الشعور.
ان كل مصنع من مصانع الذخيرة والسلاح ما قام الا بدفقة من دفقات الشعور ودفعاته، ومع هذا لا يخلو كل مصنع من هذه المصانع من منبر للخطابة يحث المنتجين على الانتاج، والعمال على العمل حتى تشعر الامة بالسيادة.
والجيش في ميدان الحرب ما كان ليخوض غمارها لولا النخوة الدينية أو الوطنية أو أي عاطفة متأججة، ثم النشيد الحربي وموسيقى الحرب وهما أدب وفن.
وأقرب ما يقرب إلى الذهن أن النهضات مدينة للادب والادباء، ان النهضة في حد ذاتها تعبير من تعبيرات الشعب والادب تعبير، والادباء هم الذين يعبرون ويهيئون النفوس والاذهان والعقول.
وكل هذا بديهي، ولكننا نعالج في بلادنا البديهيات لاننا في أول الطريق.
فما نصيب الادب في بناء الدولة.. انه النصيب الاوفى.
وما أدري ما يسمى هذا العمل؟ عندما تصبح التفاحة التي زرعناها وتعهدناها ناضجة نلقي بها بعيدا ولا نفيد منها!
مسكين هذا الاديب، انه كالوردة- كما قلت- يبهج الناس منظرها ويلذهم عطرها، ويمتعهم جمالها، ومع هذا تجد من الناس من يندفع اليها ويقطعها ثم يلقي بها على الارض.
والاديب هذه الوردة.
|