إن الشيخ محمد سرور الصبان، كما قلت آنفا، نموذج فريد في الخلق والكرم والأريحية والوفاء.. فمما أعرفه، أن أحد أمناء جمارك الحجاز في عهد تولي الشيخ الصبان وزارة المالية، كان أمين الجمارك يسكن بالإيجار في مبنى بالبغدادية، فاشترى الشيخ محمد سرور المبنى وسجل باسم أمين الجمارك، وعهد الرجل الكريم بالصِّك إليه.
* وأذكر كذلك، أنه حين صدر أول نظام للموظفين، في عهد الملك عبدالعزيز، فإن إحدى مواده، تمنع الموظف من الاشتغال بالتجارة، وكان الشيخ يومئذ يمارس التجارة، فكتب إلى الملك عبدالعزيز، يشرح حاله بأن له نفقات شتى، وأن مرتبه لا يكفي لمتطلباته، ولذلك فإنه يعتذر عن الاستمرار في الوظيفة، التي تحول بينه وبين ممارسته التجارة، فما كان من الملك البعيد النظر والعارف بأقدار الرجال، إلا أن أبلغ الشيخ الصبان، بأنه مستثنى من نظام الموظفين في ممارسة التجارة .! إذاً فلا غرابة أن ينفق الشيخ محمد سرور بسعة، ويمد يد العون إلى المحتاجين وإلى قاصديه بكرم حاتمي، وحتى للذين يسيئون إليه بألسنتهم وكتاباتهم إليه، ومرد ذلك البرُّ والخلق العالي اللذان يتمتع بهما رحمه الله.
** وعند الشيخ محمد سرور في مكتبه الخاص في بيته قوائم بأسماء الناس المحتاجين في مكة مثلا، وفي مطلع كل شهر محرم، يضيف إلى القائمة ما استجد من أسماء الذين يحتاجون إلى العون، من تلك الأنماط الذين { لا يّسًأّلٍونّ پنَّاسّ إلًحّافْا } والذين تعرفهم بسيماهم..فيحمل الرجل القدوة ما يوفق إليه وهو كريم، قد لا يخشى الفقر، لأن المنفق في المعروف، يعوضه الحق أضعاف ما أنفق.. وهناك في مكة، يبعث الشيخ محمد رسله قبل عهد الهاتف وانتشاره، من يخبر الذين يقصدهم، فيقول كل مبعوث لصاحب الدار، إن الشيخ محمد يريد أن يمر بهم ليسلِّم عليهم، يؤدي هذه المهمة الإنسانية في صمت وسرِّية، لا يريد بذلك مظاهر، ولا منَّاً وإنما يفعل ذلك ابتغاء مرضاة الله، فجزاه ربه عن أعماله الإنسانية ما هو له أهل.!
* لقد أقام النادي الأدبي الثقافي بجدة، حفل تكريم للشيخ محمد سرور الصبان بعد وفاته، تحدَّث فيه عارفو فضل الرجل وبرِّه بالأدباء والمحتاجين، فقد كان المتحدثون المختارون هم: الأستاذ عبدالرحمن التركي، الأستاذ حسين قاضي، الأستاذ إبراهيم غلام.. وشاركهم في الحديث لفيف من الحاضرين في النادي.
وكان ذلك العمل واجباً نحو رجل كريم اتسم بالوفاء والفضل والتواضع والأريحية والإحسان والمروءة والمعروف.
* ونعود اليوم إلى الوقوف على العنوانات التي جاءت من خلال ما قدم الأخ عبدالعزيز النهاري في سبع عشرة حلقة، وبعض تركيبات الجمل، التي اعتمدت على مطالعة المكتوب واستقرائه، وكذلك ما سمع واستنبط من خلال كل ما قدم للقارئ عن مسيرة حياة ذلك الرجل العملاق والطويل الباع، أو شاغل الناس كما وصفه المتحدث.. على أني لن أطيل التحاور، ولن أكتب مطولاً، كما صنع الكاتب، وما أقدمه لا يمثل أو لا يقاس على ما قدم الأخ النهاري، فلست أكتب قصة لقاء قصة توافقها أو تتعارض مع كثير مما جاء عن البادئ.!
* لن أجاري تخريجات استنطاق سيرة الشيخ محمد سرور، لأن ذلك سيقودني إلى متيهة، ويطول الخوض في الحديث إذا هممت أن أرد الحديث إلى أصوله ومصادره، لأن ذلك مضيعة للوقت وإشغال الصحيفة التي أكتب فيها، في قضية لا ينبغي الإطالة فيها، لأن الموضوع سوف يخرج عن مساره الحقيقي والأساسي، بعد أن وظَّف الأستاذ النهاري تلك النصوص والأحاديث على نحو ما وفق اجتهاداته، ليولد منها إثارة صحفية، قلت آنفا أنه ليس مسيرة حياة الشيخ الصبان وأمثالها، تبعد عن الحقائق والواقعية، ومن خلال ما قدم الأخ النهاري، أرى أننا أمام -سيناريو- لم يفرغ فيه القصة المعروضة، وإنما وظَّف النص توظيفا خرج عن روح النص، فلم يبق إذاً النص بهذا الخروج الذي وُظِّف صحافياً، لإشباع رغبة، أو لإعادة عرض قصة رجل له شأن، في ثوب يختلف تفصيله عن الثوب الذي كان يرتديه ذلك الرجل، خلال سبعة عقود من الزمان.!
* في - المانشيت- الذي تصدَّر الحلقة الأولى من حديث الأخ عبدالعزيز النهاري، تقرأ فيه: «ثلاثة عشر سؤالا عن سيرة محمد سرور» تبحث عن إجابة».! وفي تقديري أن ما جنح إليه الأخ عبدالعزيز النهاري، هو كما نقول: «تحصيل حاصل»، لأن قصة مسيرة الرجل العلم، نُشِرتْ وعُرِفت ْوقرئت واستْوعِبَتْ، فعلام النبش والبحث عن شيء من حياة الرجل قد حسمته الأيام والليالي؟ هذا إذا كان الهدف الحق التساؤل عن واقع معلم.. أما إذا كان المراد عن نبش فيما وراء ما سِّطر وقيل، واستخراج أو تفسير له مسارليس له وجود مما قد يقود إلى إساءة مبطنة، والنيات لا يعلمها إلا الله، ثم ما يقرأ بين السطور مما جيء به اليوم وبعث تفسيرات تغير المفاهيم وتقدم افتراضات وهمية، باسم البحث عن الحقائق، واستنطاق الألفاظ والمعاني التي أعلنت وحسمت منذ رحيل الرجل رحمه الله.!، لأن كل شيء معلن عن حياة هذا الرمز، ولا يجدي النابش فيما لا يفيد أحداً، إلا قول: رحم الله فلانا وغفر له، فقد كانت له أياد بيض وحسنات، وكان إنساناً مهذباً متواضعاً لم يسئ إلى أحد، وأنا لا أزكِّي على الله أحداً، فتكفيه تلك الخصال حياً وميتاً.!
* قلت: إني لن أخوض في استعراض ذلك الكم من الصفحات والأسئلة والاستنتاجات الطويلة التي ألقى بها الأخ النهاري، فأنا لا أعوِّل على كثير مما حفلت به، لأن فيه خروجاً عن النص، يسيء أكثر مما يحسن. ويكفينا كمسلمين ما حملت وتحمل كواهلنا من أوزار، إذا لم نفق بها اليوم لأننا نائمون، فسوف تصبح حسرة غداً، حين نغادر دار العمل إلى دار الحساب، وفي ذلك يقول الحق: {$ّإن كّانّ مٌثًقّالّ حّبَّةُ مٌَنً خّرًدّلُ أّتّيًنّا بٌهّا $ّكّفّى" بٌنّا حّاسٌبٌينّ }.
|