مقدرة أي مجتمع على توفير مستوى معيشي ملائم يتحسن باستمرار على مر الزمن تعتمد بشكل رئيس على معدل النمو الاقتصادي طويل الأجل ولاشك أن التغيرات التي تطرأ على معدل النمو الاقتصادي مهما كانت بسيطة تترك آثاراً كبيرة على مستوى معيشة الفرد العادي. والسؤال الذي يطرح نفسه في هذا الإطار هو ما محددات النمو الاقتصادي أو محددات مستوى معيشة الفرد العادي في الأجل الطويل؟ هذا السؤال حيرت إجابته الاقتصاديين لفترة زمنية طويلة ولما يصلوا إلى إجابة وافية. لكنهم استطاعوا الوصول إلى كثير من العوامل المؤثرة، وإلى كيفية عملها وتأثيرها. وتكمن أهمية تحديد هذه العوامل والتعرف على آليات عملها في تمكين المجتمع والفرد من تشخيص العلاج بشكل مباشر وتوجيه الجهود وصياغة الخطط وفق ذلك.
ومن أبرز العوامل المؤثرة في تحقيق مستوى معيشي ملائم يمكن أن يتحسن باستمرار معدل الإدخار ونسبة ما يستثمر من المدخرات الفردية والوطنية. فمعدلات الإدخار العالية المصحوبة بمعدلات استثمار عالية تعني إرتفاعاً في الدخول المستقبلية، وبالتالي مستوى معيشي أفضل. ولتحقيق هذا الهدف يفترض اتخاذ مجموعة من السياسات والإجراءات التي تساعد على زيادة المدخرات سواء على مستوى الفرد أو المجتمع وخاصة في الدول التي تتصف أنماط استهلاكها بالإفراط في الإنفاق على الكماليات وخاصة المستوردة.
ويأتي النمو في إنتاجية العمل كأحد العوامل الهامة في الارتقاء بمستوى المعيشة، ذلك أنه يساعد على إنتاج كمية من السلع والخدمات. وتترجم الزيادة في الإنتاجية إلى زيادة في الدخول الحقيقية للأفراد. وتتأثر الزيادة في الإنتاجية بعدد من المؤثرات منها مستوى التعليم والتأهيل والتدريب والمستوى الصحي للعامل، وبيئة العمل، وقيم العمل السائدة في المجتمع ودرجة الانضباط والالتزام بالنظام واحترامه. كما تتأثر مستويات الإنتاجية بالتراكم الرأسمالي وقدرة المجتمع وأفراده على التعامل مع التقنيات الحديثة وتبنيها. وتشير الإحصاءات إلى أن الزيادة في الدخول دائماً ما تكون متلازمة مع زيادة في الإنتاجية.
ولذا فإنه ليس بمستغرب أن يوصف الإنفاق على التعليم والتدريب والتأهيل والصحة بأنه إنفاق استثماري، وبأن ما يحوزه الشخص من هذه الأمور بأنه رأس المال البشري.
ويمكن التأثر على مستويات الإنتاجية وزيادة معدلاتها عن طريق الإنفاق على البحث العلمي وتطبيقاته المختلفة. وممايؤسف له أن الدول النامية بشكل عام قد أغفلت هذا الجانب إغفالاً يكاد يكون كاملاً. في حين أولته الدول المتقدمة صناعياً جل اهتمامها، وترى في الإنفاق على البحث العلمي شكلاً من أشكال الاستثمار.
ومن الطبيعي أن يستلزم السعي إلى تحقيق مستوى معيشي أفضل صياغة الخطط والبرامج التنموية بطريقة تعطي من خلالها الأولوية للعوامل المؤثرة في المستويات المعيشية. ومن المؤكد أن مستوى المعيشة الأفضل المستهدف ليس ثابتاً عند نقطة محددة بعينها بل هو هدف متحرك إلى الأمام باستمرار. لأن الأفضلية أمر نسبي، فهو أفضل في وقت ما موازنة بالمستويات السائدة في بقية المجتمعات في نفس الوقت. لكن المجتمعات كلها تسعى إلى تحقيق مستويات أفضل فإن قنع أحدها بما وصل إليه في وقت ما من مستوى معيشي راق ولم يحشد الجهود للإرتقاء به فسيجد نفسه في بضع سنوات قليلة قد تراجع إلى ذيل القائمة. وشواهد التاريخ، وما هو متاح من إحصاءات وبيانات تؤكد هذا وتدعمه.
|