ألفيت نفسي مفعماً بالحبور، وأنا أقرأ توجيه عبدالله بن عبدالعزيز القطاع العسكري لتدريب كوادر الشباب الوطني، بغية إعداده في مصانع الرجال ليكتسب مهنة تمهد له طريقاً نحو الكرامة. ومبعث سروري أمران: أولهما أن قمة المسؤولية في هذه البلاد لا تألو جهدا في حل مشكلاتها ومنها مشكلة مزاحمة العمالة الأجنبية للكوادر الوطنية، ولا يتأتى احلال الأيدي الوطنية مكان الوافدة، إلا بتأهيل السعوديين ليسدوا الفراغ الناجم عن الاستغناء عن شاغلي المهن من غير السعوديين. وثانيهما أنني تذكرت مقالا كتبته في زاوية أسبوعية في هذه الصحيفة السيارة يوم 15/5/1415هـ، يتناول هذه القضية. وليأذن لي القارئ الواعي في اعادة مقاطع منه:
«.. ويمكن استثمار هذه الاقبال الهائل من شباب هذا الوطن على دخول الحياة العسكرية؛ بفتح «دورات تأهيلية» موسمية لتدريب الشباب على فنون عسكرية ومهنية، حتى يتمكن الشاب من تحديد رغبته، ويثبت نبوغه في جانب، فيستفاد منه إذا لزم الأمر، والمؤسسة العسكرية مؤهلة للقيام بهذا الدور». وقلت في ذاك المقال المومأ اليه:«ويجب ألا نركز على الجانب الحكومي في استقطاب الخريجين، بل نشير باصبع التقصير الى «القطاع الخاص»؛ الذي أصفه بأنه «ضرس أعلى»، فرجال الأعمال الذين أثروا من ثراء هذا الوطن، واستفادوا من مرونة أنظمته الاقتصادية، بل ومن قروضه طويلة الأجل، ومنحه، عليهم أن يستشعروا مسؤولياتهم، ويسهموا في تشغيل الطاقات الوطنية، بدلا من أن يجلبوا عمالة أجنبية رخيصة، والتعميم في هذه القضية ظلم لأولئك الوطنيين من رجال الأعمال الذين خصصوا منحا دراسية في الخارج للشباب الوطني، وفتحوا مصانعهم للأيدي الوطنية، فهؤلاء نذكرهم ونشكرهم».
أورد هذا المقال، دليلا على اهتمام هذه الصحيفة بالقضايا الوطنية، منذ تأسيسها، وهذا واجب لم تحد عنه قيد أنملة. ولعلي أسطر أفكارا، طرأت في مخيلتي جراء سماعي هذا التوجيه السامي، أوجزها في الآتي:
أ- عقدت مكتبة الملك عبدالعزيز العامة حلقة نقاش حول «البطالة»، ضمن جهودها المعهودة في طرح المسائل الوطنية على طاولة الرأي الأكاديمي، وقد أبديت وجهة نظري المتمثلة بعدم وجود «بطالة في البلاد»، لأن مفهوم البطالة يعني زيادة عدد السكان على عدد فرص العمل، والموجود على أرض الواقع عمالة أجنبية تزاحم المواطن على أعمال لا تستدعي خبرة ولا تدريبا مثل محطات الوقود والبقالات ومخازن الأغذية والنقل.. إلخ.
ب- في وطننا خير عميم، بدليل هذا الزحف العمالي الأجنبي القادم جواً بفيزة أو بحراً وبرا تسللاً، والأمر يتطلب ترتيب الأوراق، لمعالجة هذه الظاهرة، ومقاومة هذا الزحف. وكما نجحنا في سعودة وظائف بعينها مثل «حراس الأمن»، و«أمناء الصناديق»: و«باعة الخضار والفواكه» فسننجح - إن شاء الله - في الباقي.
ج- يمكن استقطاب آلاف الخريجين من أقسام جامعية مختلفة في التدريس بالمدارس الخاصة، بعد اعتماد «كادر» قريب من الكادر الحكومي، وربط ذلك بمقدار الاعانة السنوية المخصصة للمدارس الأهلية.
د- لدينا مئات الآلاف من المساجد، وفي كل مسجد وظيفتان: إمام ومؤذن، وبيتان لأسرتين. والأمر يتطلب اصدار «كادر للأئمة والمؤذنين»، يمنع الجمع بين هاتين الوظيفتين ووظيفة أخرى. وسوف يستفيد من هذا الكادر آلاف الخريجين من الأقسام الشرعية.
هـ- نلحظ أن دول الخليج تكاد تكون الوحيدة التي تتعامل مع «العاملات المنزلية»، بنظام «اليوم الكامل»، بينما نظام العمل والعمال العالمي يحدد ساعات العمل بما لا يتجاوز «ربع اليوم». ولتحقيق العدالة، وحماية أسرنا وأطفالنا من ازدواجية التربية، وسلبية الاتكالية على الغير «اقترح تحويل» مكاتب الاستقدام الى شركات توفر العاملات المنزلية وطنية وأجنبية، للعمل في المنازل ساعات محددة، في اطار نظام يضمن سلامة التنفيذ.
و- يتبرم بعض رجال الأعمال من سلبية «العامل السعودي»، وعدم التزامه بالدوام، وعدم اهتمامه بالانتاجية، وأقول ان صاحب العمل له الحق في تشغيل العمالة المنتجة، وأرى أن يكون لكل شاب وطني عامل «بطاقة عمل» وهي سجل يتابع تنقلات هذا الشاب، وأسباب فصله أو نقله، وملحوظات أصحاب العمل عليه. ويمكن لمكاتب العمل تصميم برنامج حاسوبي لهذه المهمة. ليدرك الشباب السعودي أن ثمة نظاما يتابع العلاقة بينهم وبين أصحاب العمل.
ز- اتطلع الى غد مشرق، أرى فيه السواعد الوطنية وقد انتشرت في المصانع والمتاجر والميادين، وقد ارتدت «زي العمل» الذي يهيئ لها حرية الحركة، وسلامة الأداء، ولا حياء في أن يرتدي أبناؤنا هذا الزي.
وإنني أدعو الى ايجاد زي موحد لعمال محطات الوقود، وآخر للعاملين في مجال الأغذية،وثالث لمن يتطلب عمله ممارسة ميدانية. وأثني على قيام بعض الأسواق الكبرى بتوفير «زي موحد» للعاملين داخلها. هذه أفكار، أعرضها على بساط النقاش، واشكر «الجزيرة» على نهجها في معالجة شؤوننا الوطنية بواقعية وعقلانية، والى الله ترجع الأمور، وللقراء تحاياي.
د. عبدالله بن عبدالرحمن الربيعي
أستاذ العلاقات الحضارية بجامعة الإمام
|