لعلكم ترون الذي أراه وتسمعون الذي أسمعه وتقابلون الذي أقابله،
**هناك اعداد غفيرة من الناس، تمتلك اطنانا هائلة من الافكار، وتنطق انهاراً متدفقة من النصائح والمواعظ، يتزاحمون بمناكبهم في المجالس الخاصة والمنتديات العامة، ويتعالون باصواتهم، ويتمارون ويتجادلون وهم متأكدون من انفسهم وافكارهم ونصائحهم ونظرياتهم، واثقون من فهمهم للاوضاع والاحداث والاحوال والاشخاص، متعجبون ومستغربون ومتبرمون لان الكون والحياة والمجتمع لا تستمع اليهم، ولا تسير وفقاً لنصائحهم وتوجيهاتهم، ولأن الامور لا تستقر وفقاً لتصوراتهم.
** من ناحية، هذا شيء من دفع الناس بعضهم لبعض، وهذا ترتيب متوقع للحالة الانسانية في التاريخ والمجتمع والحياة في عمومها.
** ومن ناحية، تحس ان الامر لا يعدو ان يكون ضجيحاً وصراخاً وجدلاً ومراء، وان شيئاً ما لا يبدو طبيعياً وعادياً، وان ثمة زَبَداً كثيراً لا ينفع الناس، ولا يمكث في الارض، وجعجعة خاوية، ليس فيها طحين يشبع، وطَرْطَشَة ليس فيها ماء يروي.
** فأين الحق واين الباطل؟ وهل ثمة حق يراد به باطل؟
** وأين الصواب وأين الخطل؟ وهل ثمة خطل يرتدي اثواب الصواب؟
** لكن ظاهرة الجدل الانساني، والانسان اكثر شيء جدلاً، اذ تستعرض نفسها في اقوال الناس وافعالهم وقراراتهم، واذ تستشري وتنتشر، ثم تنقلع او تدوم وتستمر لاتثير الاستغراب او التعجب، او يجب الا تفعل ذلك، ولكنها قطعاً تثير التأزم والاضطراب والتوتر، خاصة في ازمنة التحولات والاضطرابات، وفي ظروف الفتن والتأزمات.
** إنها تثير الغبار المضلل، وترجع الصدى المدوي، وتنثر في الاجواء رذاذ الشك والخوف، وتربك بوصلة الاتجاهات، وتورث الحيرة والقلق، وتعزف موسيقى تصويرية مرجفة، وتخلق في مراكز التذوق طعماً حائراً ورائحة مزكومة وجفافاً متبلداً ماسخاً.
** ومع ذلك لا مفر ولا مهرب من الحضور بين المتزاحمين، والخوض مع الخائضين، والمعاناة في خضم الضجيج المدوي، ولا مجال للعزلة والتخلي وعدم الاكتراث بالشأن العام وقضايا الحياة والمجتمع وهموم العالم القريب والبعيد، لأن الهروب والتخلي والعزلة، سلبية لا تليق بالنابهين والفاعلين والمتأدبين بآداب الحق والعدالة واصلاح الحياة من حولهم، ولأن الطمأنينة الداخلية والسكينة الشخصية والسلام الفردي، اهداف ومطالب، لاتتأتى للانسان الفرد في عزلة عمّن حوله، وفي فراغ عن شواغل الحياة والمجتمع.
** السؤال حقاً هو: كيف تكون عنصراً ايجابياً فاعلاً وليس اضافة سلبية؟ كيف تكون طحيناً منتجاً ولا تكون جعجعة مضافة؟ وكيف تكون ينبوعاً ولو ضئيلاً من ينابيع الري ولا تكون اعصاراً وغباراً من الجدب والعطش؟
** كيف تحتفظ بتوازنك وسط تزاحم المناكب؟ وكيف تحافظ على هدوئك وسكينتك في اجواء الضجيج؟ وكيف تتعرف على «بوصلتك» الذاتية بين الاتجاهات المتداخلة؟ وكيف حقاً لاتفقد نفسك في محاولة الاتصال والتواصل مع نفوس الآخرين؟
** لعّل الاجابة الاصعب والاسهل والاكثر تكراراً، و«الكليشيه» في مختلف الازمنة والظروف هي ان تجد نفسك اولاً، وتتآلف معها، وتتصالح معها، وتعلن الهدنة او السلام، وتأخذ بعض الوقت لتجلس اليها للتسامر والحوار.
** لا فائدة ان يكون ما بينك وبين نفسك خواء وخراباً، وتدعي ان ما بينك وبين العالمين عمار.
** وإذا لم يهن لك الود من نفسك، فكيف تطمع ان تمد حبل الود الى الحياة والمجتمع من حولك؟
** نعم اغتربت نفوسنا عنّا، واضعناها بين الزحام، وفقدنا الاتصال بها، وتبعثرت اجزاؤها، وتناثرت اشلاؤها على الطرقات. الحدّة والخشونة واللهاث والاضطراب وسوء الظن والنظرات المحلقة الشزرة، مظاهر لهذا الفقدان، وانعكاس لانقطاع الاتصال وتباعد المسافات، اصواتنا المرتفعة، وخطواتنا المتأزمة المرتجفة، وقبضاتنا المهددة دربكة مفتعلة، ل«نفوس» ضائعة تائهة، تخجل من الاعتراف ب«فقدانها»، والاعلان عن ضياعها في الصحف او إخبار اقسام البوليس عنها، او الاستعانة ب«أهلنا» و«معارفنا» ليساعدونا في البحث عنها. «وأنا افترض هنا بالطبع ان الآخرين الذين يستعين بهم اناس غير تائهين عن نفوسهم».
** عندما حدثني صديقي المثقف الحكيم عن قصته مع «نفسه»، ايقنت ان القضية حقيقية وجادة، وليست محاولة ل«التفلسف» والتظاهر بالعمق والحكمة وحبك «الديباجة»، ثمة جفاء حقيقي مع نفوسنا.
** قال: قرأت نصيحة لأحد «خبراء» النفس ومروضيها، بأن احاول ان اجلس مع نفسي وحيداً يومياً ولمدة ساعة، وقلت هذا تمرين بسيط ونصيحة تافهة ولكن لا بأس من المحاولة، وكان من شروط هذا «الجلوس» مع النفس، ان ادخل الى غرفة هادئة، ليس فيها «تلفزيون» او «راديو»، وليس معي فيها كتاب او صحيفة او تلفون، وان اكون نشيطاً لا يداخلني نعاس.
** قال: دخلت غرفتي واغلقت الباب، وجلست صامتاً هادئاً ومترقباً ومتبرماً، لا اجد ما اشتغل به عن نفسي او مع نفسي.
في البداية تزاحمت على ذهني اصوات واشكال وافكار واشخاص على درجة من التشويش، ذكرتني بشاشة «تلفزيون» معطوب، وتحركت يداي لا اراديا لابحث عن «الروموت»، او اتحسس كتابا على طاولة السرير، او ابحث عن التلفون، ولكن لم يكن ثمة شيء.. ومرت عشرون دقيقة وانا ابحلق في الفراغ واحسست بالتوتر والاضطراب وتهدج الانفاس وتسارع نبض القلب وشيء من الاختناق وجفاف الشفتين، واصابني شيء من الخوف، فنهضت سريعاً وتركت الغرفة.
سألته: ماذا كان شعورك؟ قال: شعرت بانني اجلس الى شيء غريب عني، يحدق في وجهي، ولم استطع التشاغل عنه. هل تظن ان تلك كانت نفسي حقاً؟ قلت: لا اعرف. وكيف تتخيل ان اكون اكثر معرفة بها منك؟
** قد تكون هذه قصة ذات دلالة كما اظن، وقد لا تكون، وربما نجد نفوسنا في ادراج مكاتبنا او خزانات ملابسنا، وقد يعتقد البعض انهم وجدوا انفسهم وهم على وفاق معها، ولا يحتاجون الى نصح احد في خصوصياتهم مع نفوسهم.
** ولكنني اقول ل«نفسي» وللآخرين: اذا خرجنا الى «الساحات» وخضنا مع الخائضين، فعلينا التأكد اننا نحمل «نفوسنا» حقاً بين طيات ملابسنا واننا على وفاق معها.
|