ما من مصطلح جديد إلا ويواجه بالتساؤلات والتحفظات، ويطلب من ذويه البرهنة عن مشروعيته ومرجعيته وتخطيه من الفرضية إلى النظرية، ومراد الأفكار أهم من مراد المعدات والشهوات، ذلك أن الأفكار تشكل المواقف والتصورات، وتنقب في السوائد والمسلمات، وتنشئ الملل والنحل، وتوقظ الفتن، وتدفع إلى الحروب، ومن ثم أصبحت قضايا الفكر هي القضايا الأهم. لأنها تجمع الأشتات، أو تفرق الجماعات، ولأن الأدب عامة و«الأدب الإسلامي» خاصة بعد موجة «الأدلجة» والتسييس قضية من أهم القضايا الفكرية والأدبية التي تتداولها المشاهد الفكرية، فقد كان لزاماً على المصدقين بمشروعيته إبداء الأسباب والمؤيدات، سعياً وراء الإقناع والاستمالة، أو الدفع بالتي هي أحسن، ولن يتأتى الإقناع إلا بتقصي حيثيات المشروعية ومسوغات الطرح، والتناوش من مكان قريب، وعقلنة التداول، والمصطلح المثير ثنائي التركيب ثنائي المقاصد، فالأدبية لها شرطها، والإسلامية لها مقتضاها، ولابد و- الحالة تلك- من النظر في كل وجوه المصطلح المركب ومقتضياته ومشروعية قيامه، وبخاصة بعد الخلطة المستحكمة بين الفن والفكر، ومثل ذلك يتطلب تلقي التساؤلات والتحفظات بصدر رحب، ومجادلة بالتي هي أحسن، في سبيل تبرير مشروعيته، وسط أطياف المذاهب والتيارات والقضايا والمبادئ التي تملأ الرحب، ومشروعيته تتحقق بحشد المسوغات والتماس المبررات، ولاسيما أن هذا المصطلح لم يقم إلا بعد قرون من قيام «الأدب العربي» الذي تحمل مهام الإمتاع والإقناع، ولأن الفن عامة والفن القولي خاصة سابق على التشريع، ومختلف بلغته وغاياته عن سائر المعارف، فإن النظر إليه بعد التشريع يختلف عما كانت عليه النظرات من قبل.
و«الأدب الإسلامي» يواجه تحديات متعددة، فخصوم الإسلام خصوم الداء، والمتفلتون على القيم الأخلاقية، ممن لم يجتنبوا كبائر الإثم والفواحش خصوم متفاوتون بين متحفظ ومتخوف، أو متردد بجهله أو بوقوعه تحت تأثير المفاهيم الخاطئة، ممن يرى أن الفن القولي بمعزل عن الدين، ثم لا يعرف قدر الاعتزال وأمداء التداخل، وأمام تلك المواجهات لابد من أن يقدم المعنيون بالمشروع مسوغات مشروعهم، وأحسبها إن لم تكن معهوداً معرفياً فإنها معهود ذهني، إذ ما من متلق واع إلا ويعرف لماذا طرح المشروع، وما هي دواعيه ومقاصده، ولعل من أهم المسوغات:-
- هيمنة الإسلام، وشموليته وحاكميته وحقه الإلهي في أن يكون كل شيء على مراد الله، ومن جعل الفن خارج أمر الله أعوزه الدليل، وحق الفن في التشريع كحق سائر الممارسات القولية والفعلية، ودراية الأمة بأمور دنياها مرتبطة بوعي المقاصد الإسلامية.
- مشروعية تكافؤ الفرص، وتساوي الحقوق، فالقبول ب «أدب حداثي» أو «وجودي »أو «ماركسي» يلزم بقبول «أدب إسلامي » وبخاصة بعد أن وسع «الأدب العربي» كل هذه الاتجاهات وأصبح نهباً لها.
- تصحيح العلاقة بين «الادب» و «العقيدة» ولما كان واجب الأدب- أي أدب- أن يكون في خدمة عقيدة الأمة التي ينتمي إليها الأدب، كان لابد من تصحيح العلاقة بينهما، لتتم الخدمة على أقوم طريق، فالأدب وثيق الصلة بالحياة، ولن تتحقق العقيدة منفصلة عن الحياة، ولن يكون الأدب بمعزل عن تواشج الحياة بالعقيدة.
فالأدب تعبير عن موقف، وإبداع المنتمي مصطبغ بالانتماء، فالأدب إذاً بطبيعته تعبير غير مباشر عن العقيدة، ولكي يكون التعبير سليما مطابقاً لمراد المشرع، كان لابد من وعي المقتضى، وما لا تقوم العقيدة إلا به فهو عقيدة أو جزء منها، ولأن العقيدة هدف أسمى، كان لابد أن يكون قول المعتقد في خدمة هذا الهدف، ولعلنا نلمح للدلالة اللغوية لجذر «عقد» إذ يوحي بعقد مبرم بين طرفين يلزم بالوفاء، فهي من تعقيد الأيمان، وعقدها غير اللغو فيها، ومن لم يلتزم بمقتضيات العقيدة فهو يلغو فيها، والخصائص الايمانية لا تتحقق إلا بالتمثل قولاً وعملاً واعتقاداً، فمن قال ولم يعمل كبر مقت الله له، ومن اعتقد بقلبه وناقض الاعتقاد بالقول أو بالفعل أخل بالمقتضى الايماني، ولهذا جاء «الادب الإسلامي» ليصحح العلاقة بين ثلاثي التحمل: الاعتقاد، والقول، والعمل، ولا يمكن أن يكون الأدب بمعزل عن العقيدة، كما لا يمكن أن تكون الحياة بمعزل عنها، وفي الوقت نفسه لا يكون الأدب خالصاً لها، ولكنه يكون مخلصا لها، والفرق دقيق بين الخالص والمخلص، هذه القطعيات الطردية تؤدي إلى حتمية ارتباط الادب بالعقيدة ارتباطاً يعي الفرق بين «الأدب» و«علم الكلام»، إذ ما من أدب أمة إلا ويكون مصبوغاً بعقيدتها، و«تولستوي» يربط عظمة الفن بقدر ما يعكسه من إدراك ديني، ولعل شهرة «الإلياذة» مرتبطة بما تعكسه من وثنية معتبرة في لحظة الإبداع، ويقال مثل ذلك عن «الكوميديا الإلهية» «لدانتي» حيث تجسد العقيدة «الكاثوليكية»، وكذلك «الفردوس المفقود» «لملتون» إذ فيها تصوير لموقف االمسيح من الله والعالم.
وحتى الآداب ذات البعد العاطفي لا يمكن أن تثير الكوامن النفسية إلا من خلال العواطف الدينية، فالعقيدة سدى الفن ولحمته ومدده، وبدونها لا يكون الأدب أدباً خالداً، والقول ب «اللامنتمي» يعني الانتماء لعدم الانتماء، فما من قول إلا وله مضمون وهدف وانتماء، وإذا تبدت عقائد النصارى واليهود والبوذيين في آدابهم فإن العقيدة الإسلامية أولى في الظهور والتمثل، ومع هذا يجب أن نفرق بين «الأدب الديني» و«الأدب الإسلامي»، فالأول يشتغل بالموضوع الديني، والآخر يشتغل وفق المقتضى الإسلامي.
- وإذا تجاوزنا المقتضى العقدي بوصفه الركيزة الأساسية تبدى لنا مسوغ آخر، يتعلق بالسلوكيات، وحفظ القيم الأخلاقية مطلب إنساني، قبل أن يكون مطلباً إسلامياً أو مطلباً أدبياً يهتم بقيم الإسلام، والجذر اللغوي لكلمة «أدب» في كل دلالاته وثيق الصلة بالقيم الأخلاقية ف «الأدب» - بسكون الدال- هو الدعوة للزاد، وهو عين الكرم، والكرم مفردة أخلاقية، والتأديب تهيئة نفسية وسلوكية لتمثل المكارم الأخلاقية، وإطلاق كلمة «أدب» مسمى لتدارس الشعر والنثر إطلاق مولد، نظر فيه إلى التأديب والدعوة، ولقد قيل للمعلم مؤدب، لأنه يحمل طلابه على مكارم الأخلاق، فالأدب دعوة وتطويع، ومن ثم تصبح كلمة «أدب» مرتبطة بالقيم الأخلاقية على كل دلالاتها، والتمرد على الآداب السلوكية خروج على مقتضى الدلالة، والشاذ يفقد مسوغه، وأدب الرذيلة لا يعد أدباً بالمفهوم الأخلاقي، وإن كان أدباً بالمفهوم الفني، والدول التي تعتمد الحرية الدينية والسلوكية، يروعها الانحراف الخلقي، ومن ثم تحاول محاصرة الأخلاقيات المسفة، وإن حماها قانون الحريات الشخصية، وحين أصبح دور الأدب المتهتك في الانحرافات السلوكية دوراً فاعلاً، تحرف المسؤولون عن الأخلاقيات لترشيده والحد من تهتكه.
ولقد ارتفعت نبرة الجدل حول أولوية الجمال أو الجلال، وإذ يسلم الجميع بأن الجمال الحسي مرتبط بالغرائز، فإنهم يسلمون بأن الجلال المعنوي مرتبط بالقيم المعنوية، والإنسان في النهاية مجموعة قيم، وليس مجموعة غرائز وحسب، ذلك أنه بالقيم يمتاز عن سائر الأمم، فالغرائز قاسم مشترك بين الإنسان والحيوان، بينما القيم الأخلاقية خاصة بالإنسان.
وتبعاً لذلك يكون الجلال المعنوي شرط الجمال الحسي وأسُّه، وجمال القيم والأخلاق أهم من الجمال الحسي، وشرف اللفظ والمعنى أزكى من شرف اللفظ وحده، وقد نبه المشرع حين حذر من «خضراء الدمن» وأكد على مكارم الأخلاق في أكثر من آية وحديث، والأخلاقيات المطلوبة في الأداء الإبداعي امتداد لاهتمام الإسلام بالأخلاق، وحرصه على عدم الجهر بالمعاصي، وحديث «كل أمتي معافى إلا المجاهرون» يؤكد أهمية التستر، وعدم إبداء الصفحة، فمن بدت صفحة خطيئته لزم ردعه وأطره، وإشاعة الرذيلة عبر الكلمة الجميلة عين التهتك، وعين المجاهرة وبدو الصفحة، والعملية الإبداعية طاقة موجهة، فلابد أن تكون بناءة.
- ومن مسوغات «الأدب الإسلامي » ما عليه الآداب العالمية والعربية من سقوط وانحراف وهبوط في المستويات الفنية واللغوية، ف «الأدب الإسلامي» هدفه إقالة عثرة الأدب العربي، والنهوض به من كبواته المتعددة، والمتابعون لفيوض الإبداعات والدراسات والكتابات: التنظيرية والتطبيقية، يدركون الانحرافات الواضحة عن جادة الصواب، انحراف فكري، وسقوط أخلاقي، وتمرد على الشرط الفني، وإلغاء لخصوصيات الأنواع الإبداعية، وتفلت على ضوابط اللغة، وترد في مهاوي العامية، ونسف لقنوات التواصل، بافتعال التغامض، وخلق الأسطورة، وتعمد التغنص.
«والأدب الإسلامي» يسعى لتلافي ذلك كله، ويتعمد إشاعة القيم الفنية واللغوية والأخلاقية على حد سواء، ويحرص على حمل الناس عليها طواعية لا إكراهاً، وهدفه أن يقدم مشروعه بالتي هي أحسن، لا يكره الناس على أن يكونوا أدباء إسلاميين، إنه دعوة سلمية، تحاول إغراء المتعطشين إلى الكلمة الطيبة والقول السديد بالنهوض بهذه المهمة قولاً وتلقياً، ولما كانت طائفة من دعاة «الأدب الحديث» تعيش عالة على كل القيم الفنية والدلالية الغربية، ولما كان مشاهير الأدباء المعاصرين في لهاث وراء سرابيات المذاهب والتيارات الوافدة، كان لابد من التماس قيم عربية وأخلاقيات إسلامية تميز الأدب العربي عن غيره من الآداب، والمتابع للمشاهد الأدبية لا يسمع إلا بمذهب غربي، ولا يعايش إلا ظاهرة غربية، والأدباء العرب يصطرعون حول قضايا ومذاهب لا تمت إلى الحضارة الإسلامية بصلة.
لهذا كان لابد من استشعار الواقع المتردي للأدب العربي، والعمل على تلافي نقاط الضعف سعياً وراء إقالة العثرة.
و«الأدب العربي» جزء من مفردات الحضارة الإسلامية، منها ينطلق وإليها يعود، وارتماؤه في أحضان الحضارات الوافدة مسخ له وإذابة لخصوصيته، ولاشك أن طائفة من عمالقته تولت كبر الارتماء في أحضان الغير، ونافحت عمن تعجل إلى الحضارات، دون تضلع من التراث، يمكن من التمثل، ووسط هذا التهافت على المستجد دون وعي ودون حاجة اقتدار وتمثل، كان لابد أن يكون لنا أدبنا المتميز الذي يستصحب التراث، ويتفاعل مع المستجد، لا ينسلخ من قيمه الفنية والأخلاقية، ولا يعتزل المعاصرة، فالناس أبناء حاضرهم، وليسوا أبناء تاريخهم، والتفاعل الإيجابي مطلب حضاري، ومؤشر قوة واقتدار، وكم هو الفرق بين أن يحتويك الطارئ أو تحتويه، والنزعة التقليدية هي احتواء التراث للمبدع والناقد، وليس تقليد الغرب بأحسن حال من تقليد التراث، والمحافظة غير التقليد، ومحاكاة الغرب ليست تجديداً، ان مهمة «الأدب الإسلامي» أن يحتوي التراث والمعاصرة معاً، ويستن لنفسه طريقاً قاصداً، يستجيب فيه لحاجة الأمة، ويشبع رغباتها المشروعة، ولن يتحقق التميز إلا إذا انطلق أدباؤنا من التصور الإسلامي لله والكون والحياة والإنسان، والتصور الإسلامي لا يناقض أدبية النص ولا شعريته ومن قال بذلك حمل « الأدب الاسلامي » ما لا يحتمل ، وإذا تحققت أدبية النص في الإبداع الوجودي والماركسي فإن تحققها في «الأدب الإسلامي» أولى، وما القرآن إلا معجزة بيانية في الدرجة الأولى، مع أنه وعاء التشريع والتوحيد والقيم الأخلاقية.
- ولما لم يكن الأدب في سالف عهوده مؤدلجاً ولا مسيساً لم تقم الحاجة إلى أسلمته، إذ هو إسلامي لتوفر الحاكمية والتزام الناس بالمقتضى الإسلامي وقوة الوازع الديني، وما مرت به عصور الأدب من نزوع صوفي أو شعوبي أو طائفي أو سياسي يعد مبادرات شخصية، وليست مذاهب مقصودة، نجد في أدبنا العربي القديم شعر «الخوارج» و«الهاشميين» وشعر «الشعوبيين» و«المتصوفة» و«الشكوكيين» و«الماجنين»، ولكنها عوارض مقموعة بالغلبة، وليس لها ثبات المذهبية.
أما في العصر الحديث فقد تجلى الالتزام، وقامت المذهبية، ودخل الأدب في ضوائق السياسة و«الأيديولوجيات» وحين تعي المذاهب الفكرية أهمية الأدب ومهمته، وتسعى لتوظيفه في خدمة المبادئ والمذاهب يكون من حق المفكرين الإسلاميين استنهاض الأدباء للقيام بواجبهم الإسلامي.
ومقاصد «الأدب الإسلامي» لا تقف حيث يكون شعر المواعظ والزهد والتصوف والشعر الديني والابتهالات والأناشيد الإسلامية، إنها مقاصد تستوعب الطارف والتليد، وترمي إلى غايات أبعد مما يتصوره المتحفظون.
إن أمامنا أدباً ماركسياً، وأدباً حداثياً، وأدباً وجودياً، تشيع المبادئ والأفكار والقيم بطرائق لا تكون فيها مباشرة الدعوة، إنها تمثل للمبادئ والأفكار، وتحرك وفق مقتضياتها، وذلك ما تسعى إليه نظرية «الأدب الإسلامي»، ولو كان هناك توظيف واع وقاصد للأدب العربي لما كان هناك تفكير في الأسلمة، ذلك أن الأدب إسلامي بطبيعته، وذلك ما يجنح إليه البعض ممن يتحفظون على التسمية، ولا يعترضون على الممارسة، ولكن «الأدلجة» حين حادت بالأدب العربي عن طرائق العفوية، أصبح من الضروري طرح مشروع «الأدب الإسلامي».
- وفوق هذا وذاك فإن الأدب «كلمة» وللكلمة رسالة تواكب رسالة المسلم في الحياة، فما رسالة المسلم في الحياة، قبل أن يكون مبدعاً، وبعد أن كان؟
إن «الكلمة» مسؤولية {مّا يّلًفٌظٍ مٌن قّوًلُ إلاَّ لّدّيًهٌ رّقٌيبِ عّتٌيدِ } { وّقٍولٍوا قّوًلاْ سّدٌيدْا} {وّهٍدٍوا إلّى الطَّيٌَبٌ مٌنّ القّوًلٌ } {إلّيًهٌ يّصًعّدٍ الكّلٌمٍ الطَّيٌَبٍ } {لا يٍحٌبٍَ اللهٍ الجّهًرّ بٌالسٍَوءٌ مٌنّ پًقّوًلٌ إلاَّ مّن ظٍلٌمّ } وإذا كان الإنسان محاسباً على ما يقول، وإن تصور أنه في قوله يخوض ويلعب، فإن من واجبه ألا يقول إلا حسنا، أحسب أن الواقع المعاش يستدعي مثل هذا المشروع، فالواقع العالمي وواقع الأدب العربي يقتضيان التحرف السليم لصناعة الكلم الطيب والقول السديد، مع الاحتفاظ بحرية الأديب وأدبية النص، فالأدب غير الفقه وغير التفسير وغير التاريخ، ولكنه يستمد منهما ما يحقق انتماءه لحضارته، وما حضارته إلا الإسلام، وما الإسلام إلا أمر ونهي وحرام وحلال وأطر على الحق، يقع على القول مثلما يقع على الفعل، والحرية لا تكون إلا بضوابطها.
|