تفضل يا أخي وأجبني على كل ما قلته لك، وليكن جوابك صريحا ولا تجعلني أدور معك في حلقة مفرغة لا نجد منها مخرجا يهديني واياك سواء السبيل، لأنني عندما ابديت لك رأيي كنت فيه صريحا الى ابعد حدود الصراحة، وكنت اتكلم معك كأخ يتوخى لاخيه الخير، ولا يضن عليه بالنصيحة كلما اقتضى الحال اليها، انك أب، والأب اشفق الناس على أبنائه، وخصوصاً اذا كان جل ابنائه بناتا، لقد نصحت لك وبالغت في النصيحة، وكنت تشيح بوجهك عني غير متأثر بها، ضارباً بكل آرائي عرض الحائط، وكنت اقابل كل ذلك منك بروح الصديق المخلص الذي يأمل ان يأتي اليوم الذي تتبين فيه الرشد وتتأكد بأني اخلصت لك النصيحة ولم اضن عليك بها - قال وبعد ان اخذت اسارير وجهه تنبسط: هذا صحيح. ولكن كيف يتبين اخلاصك.. من عاش في متاهة غرور نفسه التي تأبى عليه إلا الانغماس في وحل التقاليد والعادات التي لا تخلو من مظاهر الرياء، وحب السمعة، والانصياع لقعيدة بيت، لا يعنيها شقائي وشقاء ابنائها. لقد اتيتني.. وهذا اعتراف مني بالخطأ تخطب لشابين كريمين، فرفضت بسبب شروطي التي وضعتها والتي لا تدل على حصافة عقل، او ادراك لما سيحدث بسببها. لقد كنت اتطلع الى المادة واقامة الحفلات، دون النظر في ظروف من اريد ان ازوجه بناتي، حتى بلغت أكبرهن سن الثلاثين من عمرها، وحتي بدا الذبول في جسمها، وحتى بدت تجاعيد وجهها تظهر، فهالني ذلك واضطرني تخلفها عن الزواج المبكر الى تزويجها، وقد جرى ذلك في ظروف اقل شأنا، وكنت أنا وأمها السبب في خلق تلك الظروف التي لا تسر كل أب يريد لأبنائه الخير والسعادة والهناء. وقد عاهدت ربي ألا أمنع الباقين عن الزواج متى جاءني الزوج الكفء ولو كان فقيرا. كما عاهدت ربي ان اكون لهما عونا في تهيئة الحياة الكريمة. لقد كنت انسانا احمق، ذا نفس جشعة، وقد جر كل ذلك عليّ وعلى ابنائي شقاء الحياة وتأنيب الضمير. ان في بيتي الآن خمس فتيات كلهن تخطين العشرين من أعمارهن. وكلما نظرت اليهن وهن يخطرن أمامي ارى فيهن اتوناً يريد ان يلتهمني وأمهن فأضع يدي على عيني لكيلا ارى ما يتراءى لي وهن يخرجن من غرف نومهن، وعلى وجه كل واحدة منهن نذير ينذر بأن شرا سيقع، فأرفع كفى متضرعا الى الله تعالى ان يجعل لهن من هذه الدار - التي أصبحت بالنسبة لهن سجنا بغيضا هيأه لهن اب جشع وأم حمقاء - فرجا ومخرجا، وانني اتعهد لك الآن بأنني على استعداد بأن أمد يدي مصافحا لكل خاطب كفء دون أي شروط مسبقة.. وان اقدمها له زوجا كريمة يحفها العطف والحنان ومشيعة بالدعوات الصالحة من أب يعترف بما ارتكب من آثام، جرّت عليه وعلى أبنائه الشقاء.
قلت وأنا أكاد اصعق من الفرح والسرور، ازاء ما سمعته منه لأنه صديق عزيز، عشت واياه اعواما كثيرة، يشاطر كل منا صديقه هموم الحياة وآلامها، أقسم لك ان فعلت ذلك ونفذته ستكون قدوة حسنة لكل أب عاش يحس باحساسك ويتطلع الى ما كنت تتطلع إليه، وتثق أنك ستجد مني العون كل العون.
ان الفتاة يا صديقي تكون بركة في دار أبيها ما دامت برعما لم يتفتح. أما إذا تفتح البرعم وجرت مياه الحياة في اطرافه فإنه سينقلب أتونا يحرق كل من يقترب اليه.. ولا يهدأ اواره إلا اذا سكبت عليه ذنوبا من ماء يجانسه ويعيد اليه الأمل في الحياة المقترنة في ظل خدين لا يغني عنه كل ما في هذا الوجود من أحياء.. لأن ذلك سنة الله، ولن تجد لسنة الله تبديلا، ولا تنس يا أخي ان هذا الدور دور الصبا والشباب فقد مر بنا جميعا وكان جل أمانينا فتاة تملأ علينا الحياة ونبادلها كأسا بكأس نملؤها عطفا وحنانا وأملا في ان يكون كل واحد منا ابا لطفل أو أطفال، نقضي فراغ أوقاتنا في مداعبتهم ومراقبة نموهم في كنف الابوة التي لا تخلو من أمل في عيش كريم توفره لأبنائها، وتقدمهم الى المجتمع ابناء صالحين، اما الحجر على الفتاة فهو اضرار بها وجريمة في حق المجتمع الذي يتكون افراده من ضدين. سالب وموجب، أي ذكر وأنثى، فإذا تعطل احد الضدين طرأ الفساد على الضد الآخر. وكانت الفتنة.. الفتنة التي حذرنا من الوقوع فيها رسول الرحمة وإمام المصلحين - صلى الله عليه وسلم - فهب هبة المستفيق من سبات عميق وهو يقول: لا لن انتظر: وسأخطب لهن وأكون قدوة حسنة. قلت، تلك سنة سلفنا الصالح وقاعدة من قواعد ديننا الحنيف التي ترفع الحيف والضرر عن أبنائنا وفلذات أكبادنا، وتدرأ الشر والفساد عن مجتمعنا المسلم.. قال ادع الله لي ان يوفقني فيما اسعى إليه. قلت اللّهم وفق اخي وصديقي، وكن عونا له ليزيل عن كاهله حمله الثقيل، فإنه عبدك وأب لخمس فتيات، هن ابناؤه وأنت أرحم بهن جميعا.
قال آمين.. وانصرف وكله عزيمة واصرار على اكرام بناته ودفع الحيف عنهن، ولكن وبعد شهور قلائل عادت الى وجهه ابتسامات الرضا والسرور وهو يقول: لقد زوجتهن جميعا، وقد زوجت الأولى من الشاب فلان وكنت اعرفه ذا استقامة وأدب جم وحياء وفير، ولكنه موظف بسيط، لقد زوجتها عليه وبعد العقد ادخلته عليها في داري وظلا كذلك ثلاثة أيام انتقلا بعدها الى دارهما وكذلك جرى مع كل اخواتها فقد عمرن خمسة بيوت واصبح لي خمسة اظهار كلهم ينظر اليّ نظرة اكبار وتقدير وكذلك زوجاتهم فقد تبدلت تلك النظرات المخيفة بنظرات كلها رضا بحياة الزوجية التي كاد يحرمهن منها جشع اب غارق في حب الظهور والسمعة الكاذبة الجوفاء. قلت: وعلى سبيل الاختبار.. ان الزوج الأول الذي اخترته لابنتك فقير وموظف بسيط.. قال وباشمئزاز مما قلت: لم يعد يهمني قلة مال الزوج الذي اخترته ان يكون زوجا لابنتي ما دمت رضيت دينه وأمانته.. وأردف قائلاً: ألم تكن هذه نصيحتك لي. قلت: بارك الله زواجهن وجعله مقرونا بالسعادة والهناء وبالرفاه والبنين. وهكذا ضرب ذلك الصديق المثل الأعلى وزوّج كل بناته لمن رضي دينهم وأمانتهم وأصبح قدوة حسنة فهل نقتدي به ونفعل مع بناتنا وفلذات أكبادنا فعل ذلك الرجل الذي جرب الأنانية وندم في ظلها.
|