الناس في تصديها للأمور اثنان: مندفع ومتئد، فمن شيمة المندفع أن يطيع أول هاتف في غير تقدير للعواقب، فقد اقتنع برأي في لحظة، وانكفأ في اللحظة التالية، على تنفيذه، وحسم الأمر كله بلا تردد، وعز عليه أن يتدارك العواقب، إن كانت لعمله عواقب.
وأما المتئد: فهو على ثقته بنفسه، يقلب الرأي على أوجهه المتباينة، ويوازن بين طيبه وخبيثه، وينظر إلى غده ويومه، فإذا اقتنع به أجراه مجرى التنفيذ، وإلا فلا مفر من اطراحه في سلة للمهملات عميقة القرار.
وقد يكون المندفع حازماً، حاسماً، قاطعاً برأي فاصل، باتاً في كل أمر وهذه مزية تحسب له في ميزان التقدير، ولكن مثل هذا الرجل لا يسلم من خطأ ناجم عن سوء في التقدير، فإنه يندفع في اتجاه غير مرسوم، إلى أدنى تفصيلاته، وليست له من عدة إلا فكرة طرأت وعزيمة انعقدت، وهمة انطلقت بغير ضابط، وبات عليه أن يترقب نتيجة عمله، فقد يصيب وقد يخيب.
وقد يكون المتئد بطيئاً طويل البال، بيد أن مثله يتوخى من أسباب الحذر ما ينجيه من كثير من المزالق.. فهو حريص على مراجعة النفس، وتداول الموضوع من جميع نواحيه، واستفتاء ذوي الخبرة في الأمر، ومراجعة المظان إذا أعوزه التثبت من شيء.. فإذا اتخذ بعد ذلك قراراً كان قراره وليد رأي خبير، وخبرة واسعة، وثقة دانت له بفضل الاستقصاء والتحري.
على أن للاندفاع والاتئاد ظروفاً تقضي بإيثار هذا على ذاك، أو ذاك على هذا، دونما قاعدة مقررة سارية، فإن فُجَاءات الدهر التي تأخذ الناس بغفلة كثيراً ما تلجئهم إلى ضرب من ضروب رد الفعل.. فيتصرفون باندفاع لملاقاة المفاجأة بمثل اسلحتها.. مهما تكن العاقبة.
فإذا اجتاز أمرؤ مسالم غاية، لا ينوي شراً ولا يضمر سوءاً، ثم انبرى له في غفلة عين أسد ضار يروم الفتك به، فلن يكون له من سلاح أمام هاته المفاجأة المباغتة إلا سلاح الاندفاع، يقاوم بوازع من البديهة الحاضرة، والقوة البدنية الميسورة، لأن المجال لا ينفسح لتقليب رأي ولا لاستهداء عقل..
وقد تكون المعركة خاسرة لانتفاء عنصر التكافؤ بين الجانبين ولكنها لن تخلو من ضروب البسالة في لحظات تطول أو تقصر.
وإذا تكاثرت المشكلات وتكاثفت، فلن يفيد اندفاع في حلها، ولا بد للمرء من اتئاد تمليه وطأة الظروف ليتأتى له خروج من غمة المشكلات بأدنى كلفة..
فإذا كان على محام قدرة أن يحمل عبء الدفاع في قضية متعددة الأطراف، تعين عليه أن يصرف وقتاً ثميناً في مراجعة القوانين والأوراق، والاستعانة بالسوابق، واستغلال كل نقطة ضعف في القضية ليقوي بها جانبه ويهون عليه الظفر في هاته الدعوة.
فالدرس واجب حتم في مثل هاته الحال، وفي كل حال شبيهة بها.. والاتئاد منجاة من العثرات، معوان على قتل الموضوع، بحثاً واستقصاء واستيفاء، فتأخذ العدالة مجراها كاملة، بريئة من الشوائب.
ولقد حاول رجال الصناعة الجمع بين الاندفاع والاتئاد في دنياهم رغبة منهم في الانتفاع بما في الاندفاع من سرعة، وما في الاتئاد من روية وامعان نظر، وبذلك يكسبون الوقت، ويحذرون المخاطر.
ولعل الطائرة الحديثة أروع مثل على هذه المحالفة الرائعة بين مذهبي الاندفاع والاتئاد، ذلك أنها إذ تنطلق في مسيرها ناهبة الفضاء نهباً مندفعة إلى أقصى ما تسمح به طاقاتها، ترعى اعتبارات الاتئاد لمجانبة الحوادث، فلا بد لرجال الطائرة من أن يدرسوا أحوال الجو والريح، قبل طيرانهم، ولا بد لهم، وهم في مسابح الاجرام، من متابعة كل صغيرة وكبيرة، في الجو المحيط بهم، وتدبر الأمر في أوانه تحقيقاً للأمان الكامل عند الصعود.. وفي أثناء التحليق، وعند الهبوط. فاندفاع الطائرة ليس اندفاعاً أعمى أو قفزة في الظلام، بل هو اندفاع عاقل مدبر مدروس مأمون، تسلم عاقبته في الكثرة الغالبة من الأحوال وبفضله تختزل المسافات بل تلغى، بين أمصار العالم كلها.
والذين قالوا إن السلامة في الأناة والندامة في العجلة، لم يصيبوا الصواب كله، في كل حال، لأن السلامة والعجلة تتلاقيان، والأناة والندامة لا تتنافران..
والذين قالوا إن خير الأمور أوسطها قاصدين الاعتدال في كل شيء لم يكونوا صادقين في تقديرهم كل الصدق، لأن الغلو قد يكون خير الأمور في عالم يدين بالغلو في السرعة.. وفي الأخذ بأسباب الحضارة المختلفة.
وإنما القيم تتغير من آن إلى آن، فتصدق في زمن وتنكب الصدق في زمن غيره.
والأمثال التي تضرب في وقت تعدو على بعضها عوادي الأيام في وقت غيره فتبدل من عناصرها تبديلاً جذرياً، وتبقى لها خصائص الحكمة في زمان اطلاقها.
وفي الأمثال كثير مما قيل في الاندفاع والاتئاد، وفي المفاضلة بينهما..
فبينما يقول زيد من الناس في التاني السلامة وفي العجلة الندامة، وأن خير الأمور الوسط، وإن هذا من الأناة خير ما فيها وهو الروية.. ويمازج بينهما ، مثل:«يمشي رويداً ويكون أولاً»..
وكثيراً ما يكون الاتئاد والاندفاع من طبائع النفوس، التي يتعذر تغييرها بنصيحة تزجى أو رأي يساق.
ولكن يصح لكل امرئ، سواء كان أميل إلى الاندفاع أو إلى الائتاء، أن يأخذ نفسه بمنهاج يجنبه العثار، فيراجع نفسه في كل حال، ويعيد النظر في عمله وتصرفه، ويفيد من نقد الغير ومن كل خطأ قد يتورط فيه.
وقد استوقف نظر الناس كتاب أصدره المؤرخ الكبير أرنولد توينبي بعنوان «اعادة نظرة» راجع فيه نفسه وآراءه التي أثبتها في كتابه الجديد، مستعيناً على ذلك بما وجه إليه من نقد أوملاحظة من جمهرة المؤرخين والنقاد.
فبفضل مراجعة النفس في الجليل من الأمور والدقيق يستطيع المرء أن يسلك سبيلاً غير محفوفة بالمخاطر، تغلب عليه الحكمة، وتنيله كل مأمول من الأغراض.
ومراجعة النفس إن تعذر عليها أن تسبق العمل نفسه، فلا معدى عن أن تجيء لاحقة للعمل، فينتقد المرء ذاته، ويراجع تصرفاته في ضوء ما بان له من حقائق، ويتدارك ما فاته في العجلة أو في الأناة، ويستزيد خبرة تنفعه في يومه وغده.
|