ما يهمنا في هذا البيت الذي ما يزال يصدح به أبو الطيب المتنبي منذ أكثر من ألف سنة وهو يمدح سيف الدولة كلمة «العقاب» فالشرّاح انشغلوا بتفسير الألفاظ وما تحمله من دلالات لفظية وبيانية وكتب البلاغة تقول مثلاً: «إن المتنبي شبّه صورة جانبي الجيش ميمنته وميسرته وسيف الدولة بينهما، وما فيهما من حركة واضطراب، بصورة عُقابِ تَنْفُض جناحَيْها وتحركهما، ووجه الشبه هنا ليس مفردا ولكنه منتزع من متعدد وهو وجود جانبين لشيء في حال حركة وتموج» «البلاغة الواضحة» وهو شبيه إلى حدٍ ما بشرح البرقوقي.
أما المعري فيقول في شرحه: «شبه سير الجيش عن يمينه ويساره واهتزازه بجناحي عقاب في طيرانها، وقيل «العُقَاب» سيد الطير، فشبّه سيف الدولة بالعُقاب لكونه سيدا».
ويكاد اليازجي والعكبري يوافقانه في الشرح إلا ان العكبري يضيف قائلاً: «العُقاب، أيضاً الرآية» ومن اللافت للنظر انه قد تكررت لفظة «العُقَاب» في ديوان أبي الطيب المتنبي أكثر من مرة وهذا ما يوحي إلينا انه لابد ان يكون هناك تفسير ولقد نجح المتنبي في توظيف تلك الكلمة بالبيت السابق ويقال إن المتنبي كان لا يمدح إلا نفسه في تلك القصائد التي يتلوها على سيف الدولة حتى يظفر ب«الجائزة» و«المدح» لنفسه معاً.
ولقد تعلّق المتنبي ب«العُقاب» لأن العُقَاب كما يقول الدُّميري في سفره «حياة الحيوان الكبرى» سيد الطيور وتضرب به العرب المثل في شدّة الابصار وتقول: ابصر من عقاب، والعقاب إذا صادت شيئاً لا تحمله على الفور إلى مكانها، بل تنقله من موضع إلى موضع ولا تقعد إلا على الأماكن المرتفعة، خفيفة الجناح، سريعة الطيران وينقل لنا الدُّميري قصة مفادها انه قيل لبشار بن برد الأعمى لو خيّرك الله ان تكون حيوانا فماذا كنت تختار؟ قال: العقاب وعلّل اختياره قائلاً: لأنها لا تلبث حيث لا يبلغها سبع ولاذو أربع وتحيد عنها سباع الطير ولا تعاني الصيد إلا قليلا، بل تسلب كل ذي صيد صيده، ومن شأنها انّ جناحها لا يزال يخفق، هذا ما ورد في الكتاب القديم، أمّا إذا أردنا تحديث معلوماتنا فلنتصفح معا كتاب «الموسوعة العربية العالمية» التي تقول: «العُقَاب من أقوى الطيور، وتُصوَّر العقبان عادة على انها طيور صائدة شجاعة، كما يُرمز بها منذ وقت بعيد إلى الحرية والقوة وأكثر ما ينطبق هذا الوصف على العقاب الذي يدعى سيد الطيور» إذن فجميع الكتب القديمة والحديثة تتفق على سيادة «العقاب» في عالم الطيور ويتضح لنا بكل تأكيد ما أراد الشاعر ان يؤكده من معنى وليس كما قال البلاغيون من أنه يمدح سيف الدولة في البيت السابق «يهز الجيش..» فكما ان العقاب سيد الطيور يحلق بعظمة واعتزاز في السماء تظهر عليه علامات الجبروت والكبر والتوحش فإذن المتنبي وهذا ما يريد ان يؤكده الشاعر من معنى أيضاً سيد مملكة الإبداع والشعراء عبيده يهز جيوش القوافي وأركان القصيدة بلسانه المبين، يحلّق وحيداً في سموات الإبداع يتفرد في خلق القصيدة التي ظل الدهر يرويها على مرّ العصور:
وما الدهرُ إلا من رُوَاة قصائدي
إذا قُلْتُ شِعْراً أصْبَحَ الدهر منشدا
فسار بِهِ من لا يَسِير مشمِّراً
وغنى بِهِ من لا يُغَني مُغَرَّدا
لقد ظلت قصائده، تروى على مرّ العصور وتنشد في جميع الفصول، ملك القلوب بإبداعه وأصبحت الشمس من حُسَّاده والنَّصرُ من قرنائِهِ، أين الثلاثة من ثلاثِ خِلاله: من حُسن قصائده وإباء قوافيه ومَضَاء كلماته، مضت الدُّهُور ولم تأتِ بمثله، ولقد أتى فَعَجَزْتَ عن نظرائه.