كان آخر شيء أشرت إليه في المقالة السابقة حفل افتتاح المؤتمر الرابع من مؤتمرات خيمة الفكر والإبداع الذي أقامته جمعية فاس - سايس، وكانت نهاية ذلك الحفل قراءات شعرية لعدد من الشعراء ختموا مسكاً بقصيدة طويلة رائعة للشاعرة المغربية المبدعة أمينة المريني.
وبعد ذلك افتتح معرض خط اسلامي إيراني للسيدة فريبا مقصودي، وهي امرأة ذات خلق كريم، وقد نال المعرض اعجاب كثير ممن شاهدوه وتقديرهم ثم جال المؤتمرون في معرض اصدارات كويتية اغلبها من اصدارات مؤسسات البابطين الثقافية.
وفي صباح يوم الأحد السادس عشر من شعبان عقدت أول جلسة علمية عن الخليل بن أحمد الفراهيدي برئاسة الأستاذ الفاضل الدكتور الجليل محمد بن شريفة، عضو أكاديمية المملكة المغربية، الحائز على جائزة الملك فيصل العالمية في الأدب العربي. وقد تنوعت البحوث بين الحديث عن جهود الخليل في ميدان اللغة وجهوده في حقل الشعر، كما تنوعت بين دراسات دقيقة جداً يفيد منها المتخصصون في ميداني اللغة والنقد الشعري أكثر من غيرهم ودراسات يمكن أن يفهمها غير المختصين من أمثال كاتب هذه السطور، ويفيدوا منها، وكان من بين ما فهمه هذا الكاتب من البحوث الأخيرة بحث قدمه العالم الجليل الدكتور عباس الجراري، مستشار ملك المغرب بعنوان «الشعر المغربي في ميزان عروض الخليل بن أحمد الفراهيدي». أما تلك البحوث التي كانت فوق فهم الكاتب لدقة تخصصها فمنها بحث للدكتور محمد الدنابي من كلية الآداب بفاس، وعنوانه: «آلدلالة الجمالية الصوتية للرس والحد في نظرية الخليل بن أحمد الفراهيدي».
وفي مساء ذلك اليوم تمت قراءآت شعرية أدارها الدكتور عبد المالك الشامي، رئيس شعبة اللغة العربية في كلية الآداب بفاس، وكان كاتب هذه السطور ممن سعد باتاحة الفرصة له للمشاركة فيها. ولأن الجو العلمي كان جواً خليلي السمة جاء ما قرأه منسجماً مع ذلك الجو، إذ ألقى قصيدتي «لا تسلني» و«شجون وراء الحدود».
وفي صباح يوم الاثنين، وهو اليوم الثالث والأخير من أيام المؤتمر، رأس الدكتور عبد القادر كونكاي، من الدار البيضاء، جلسة البحوث عن الخليل، وكان من بين الذين ألقوا تلك البحوث الأستاذ الدكتور يوسف بكار، من جامعة اليرموك الأردنية، وعنوان بحثه: «عروض الخليل أصالة المنبت واشعاعات الآخر (مقاربة تنويرية جدلية عامة)، والدكتور محمد البو قاعي من كلية الآداب بفاس، وعنوان بحثه: «نظرات في معجم العين للخليل»، وكان مما أثاره كاتب هذه السطور غير المتخصص في جلستي يومي الأحد والاثنين أن مما هو جدير بالتأمل - عند الحديث عن بحور الشعر التي وضعها الخليل - أن هذه البحور تخدم الناقد باعتبار معرفة الوزن أحد أدواته في نقد القصيدة، لكنها لا تكون شاعراً، فكثير من شعراء الفصحى والعامية، وبخاصة النبطية، لا يعرفون أسماء تلك البحور، وقالوا ما قالوه من الشعر وفق سليقتهم. أما عند الحديث عن تأثر الخليل بغير العرب في وضعه البحور فإن من الجدير بالتأمل أنه وضع البحور المذكورة بناء على ما كان موجوداً من شعر عربي في زمنه وقبل زمنه، وأن من يقولون شعراً عامياً (أو نبطياً كما يسميه البعض) لم تقتصر أشعارهم على بحور متفقة مع بحور الخليل، بل زادوا عليها بحوراً كثيرة غيرها، وهم لم يتأثروا حتماً بغير العرب.
أما في المساء فتمت الجلسة الأخيرة من جلسات المؤتمر، وكانت برئاسة الدكتور عبد الرحمن طنكول، رئيس بيت الشعر، وقد اشتملت على قراءات شعرية لعدد من الشعراء بينهم وهيب شمس الدين من مكة المكرمة، وسالم الكلباني من عمان، ولطيفة لزرق من المغرب، وكان مسك ختامها قراءة شعرية لشاعر محلق مبدع هو الأستاذ عبد السلام بو حجر من مدينة وجدة المغربية.
وهكذا كانت القراءة الشعرية المواكبة لحفل الافتتاح شهداً مناسباً من شفتي الشاعرة المغربية أمينة المريني، وكانت القراءة الشعرية في الأمسية الختامية للمؤتمر عسلاً مذاباً من فم الشاعر المبدع عبد السلام بو حجر، ولكل منهما نكهته الخاصة به، لكنها النكهة الرائعة المحببة إلى النفوس العاشقة للكلمة الجميلة المعبرة.
كانت سعادتي بتجديد اللقاء باساتذة اجلاء وأصدقاء أخلاء سبق أن عرفتهم قبل ذلك المؤتمر، ومعرفة علماء وشعراء كرام لم أسعد بمعرفتهم من قبله، زاداً خفف عني متاعب جسدية خلال رحلة العودة إلى وطني الأم. لقد غادرت مدينة فاس عصر يوم الثلاثاء الثامن عشر من شعبان متوجهاً إلى الدار البيضاء لأستقل الطائرة التي ستذهب إلى باريس الساعة السابعة من صباح اليوم التالي. ومع أن مقصورة القطار أتاحت لي صحبة رجال ونساء غاية في اللطف والخلق الحسن فإن شعوري النفسي وأنا عائد من فاس لم يكن الشعور نفسه، سعادة وبهجة، وأنا ذاهب إليها. وما ان حللت في الدار البيضاء حتى نزلت في فندق محطة القطار، أملاً في توفير ما يمكن توفيره من وقت لأخذ قسط من النوم استعداداً ليقظة محتمة قبل الفجر.
وغادرت الطائرة في الوقت المحدد مطار العاصمة التجارية للمغرب. وكان إلى جانبي عجوزان غربيتان أكل الدهر على كلتيهما وشرب ما طاب له. أما إحداهما فلم تكن تعرف إلا اللغة الفرنسية، التي ذهبت من ذاكرتي كلماتها أدراج الرياح بعد ثلاثة عقود من معرفتي إياها، وأما الأخرى فكانت تتحدث الانجليزية، وما كنت ممن يضيعون فرصة التحدث مع الآخر، أملا في افادة منه، وقياماً بحق رفقة الطريق التي عبر عن جانب من جوانبها أحد الشعراء بقوله:
أما أنت هيجن الى هيجنت
والا أنت عن خاطري حوّل
|
وبطبيعة الحال، لم يكن وضعي مع الجارتين مشابهاً لوضع ذلك الشاعر مع رديفه على قاطرة، فبدلاً من القاطرة طائرة كانت تحلق بين السماء والأرض. ولم تكن هناك فرصة للهيجنة، أو مجرد تفكير في تحويل.
وفي مطار ديجول - وما كان أعظمه رئيس دولة: عميت أفكار المسافر وهو يتنقل في الحافلة من مبنى إلى آخر حتى اطمأن اخيراً بانه في المكان الذي سيستقل عبر بوابته الطائرة المتجهة إلى القاهرة، فالرياض. لقد كانت الرحلة - بسبب ما سبقها من رحال متواصل - متعبة جسدياً، لكن الشعور بأني متوجه إلى وطني الأم كان يخفف عن نفسي كان مشاعر السأم. لم يكن مهما أن أبقى ساعات في الجو من باريس إلى القاهرة، وحوالي ساعتين في مطار هذه العاصمة العربية. فما كان يدور في ذهني مطار الملك خالد في الرياض. وكان الوصول إليه بعد الساعة الحادية عشرة ليلاً. وهناك كان ابن أخي، إبراهيم، ينتظرني ليحملني في سيارته الى مسقط الرأس. فيحاء القصيم.
وكانت المرتبة الخلفية من السيارة بمثابة فراش وثير اتاح لمن لم يعتد النوم في الطائرة ان يسبح في بحر من النوم الهادئ. ولم أستيقظ إلا وهو يقول لي: الحمد لله.. وصلنا السفيلاء - إحدى حارات عنيزة - تكمل نومك عندي أو أوصلك إلى بيتك؟ قلت : بيتي وبيتك واحد.
لكن أوصلني إلى بيتي الذي سبقني إلى آلوصول إليه الأولاد وأمهم قبل ذلك بساعات. كانت الرحلة من بدايتها في الدار البيضاء الى نهايتها في عنيزة الفيحاء أطول رحلة قمت بها لكن هذه النهاية في مسقط الرأس كانت من أسعد اللحظات.
|