وفي رمضان تتحقق معاني الإنسانية، وتكون المساواة بين الناس فلا يجوع واحد ويتخم الآخر بل يشترك الناس كلهم في الجوع وفي الشبع، غنيهم وفقيرهم، فيحس الغني بألم الجوع، ليذكره من بعد اذا جاءه من يقول له: انا جوعان، ويعرف الفقير قيمة نعمة الله عليه حين يعلم ان الغني يشتهي على غناه رغيفا من الخبز أو كأسا من الماء ويعلم الجميع حين يجلسون الى مائدة الافطار ان الجوع يسوى بين المطاعم كلها: القوزى والنمورة وصحن الفول المدمس وليس الذي يطيب الطعام غلاء ثمنه ولا جودة صنعه ولا حسن مائدته، ولكن الجوع الذي يشهيه والصحة التي تهضمه وارخص طعام مع الصحة والجوع ألذ من موائد الملوك لمن كان مريضا أو شبعان ويغدو الناس كأنهم اخوة في اسرة واحدة أو رفاق مدرسة داخلية يفطرون جميعا في لحظة واحدة ويمسكون جميعا في لحظة واحدة فتراهم في المساء مسرعين الى بيوتهم أو قائمين على مشارف دورهم، أو على أبواب منازلهم، ينظرون في ساعاتهم ويتطلعون الى المآذن بعيونهم، والى المدافع بآذانهم، فاذا سمعوا ضربة المدفع أو ابصروا ضوء المنارة أو رن في اسماعهم صوت المؤذن عمت الفرحة الكبار والصغار بنغمة موزونة: «أذن، أذن أذن» وطاروا الى دورهم كعصافير الروض، يرضى كل بما قسم له وبحمد الله عليه قد راضهم الجوع على ان يتقبلوا كل طعام، فكل طعام هو في اذواقهم تلك الساعة أطيب طعام.
فإذا فرغوا من طعامهم اموا المساجد فقاموا بين يدي ربهم وخالقهم صفا واحدا متراصة اقدامهم ملتحمة اكتافهم وجباههم جميعا على الأرض يذلون لله فيعطيهم الله بهذه الذلة له عزة على الناس كلهم، ومن ذل لله أعزه الله، ومن كان لله عبداً جعله الله في الدنيا سيدا، ومن كان مع الله باتباع شرعه والوقوف عند أمره ونهيه واتيان فرائضه واجتناب محرماته كان الله معه بالنصر والتوفيق والغفران وبذلك ساد أجدادنا الناس وفتحوا الارض من مشرقها الى مغربها وحازوا المجد من اطرافه واقاموا دولة ما عرف التاريخ انبل منها ولا افضل ولا اكرم ولا اعدل.
هذا هو رمضان الذي يجمع للصائم صحة الجسم، وصحة الروح وعظمة النفس ورضا الله.
من كتاب مع الناس
للأستاذ علي الطنطاوي |