هنالك أمثلة مشرقة من البشر، نماذج تتحقق فيها صفاتٌ تجعلها جديرة بأن تكون قدوة لغيرها من الناس، وهذه النماذج البشرية المضيئة هي التي يتحقق بها الأمل في حياة جميلة على وجه كوكبنا الأرضي على الرغم من كل مشكلاته وقضاياه وأحداثه.
كم من إنسان أحاط به الشقاء من كل نواحيه، وسيطر عليه الأسى حتى دفع به إلى اليأس أو ما يشبه اليأس، وظنَّ أن حبال الرجاء قد انقطعت، وزهور السعادة قد ماتت، يسَّر الله له لقاءً بنموذج من تلك النماذج البشرية المضيئة، فأخرجه من دوَّامة بؤسه وظلمة يأسه، إلى استقرار صفائه وإشراق أمله، وإذا كان الكرم، والحِلْم، وحسن الخلق، وصفاء السريرة من الصفات التي تُوْهَبُ لأصحابها من الخالق عزَّ وجلََّ، فإنها صفات يمكن أن يكتسبها فاقدها بالمران والمثابرة وتعويد النفس عليها، فربما جاء الحِلْم بالتحلُّم، والعلم بالتعلُّم، والكرم بالتكرُّم، والجود بالتجوُّد، وهكذا.
ومع ذلك فإن النماذج المضيئة بفطرتها وسجيتها تظل أعمق أثراً، وأعظم مكانة، حتى يصبح من الصعب التعويض عنها إذا فُقدت.
يروى أنَّ قبيلة طيء قد عَمَّ فيها الحزن بوفاة «حاتم الطائي»، وجزعوا لفراقه جزعاً ظهر أثره في رجالهم ونسائهم، لأنهم رأوا باباً من أبواب الجود والكرم والسخاء «الفطري» قد أغلق وفي ذلك أثر سلبي في مكانة القبيلة وسمعتها، فتصدَّى أخوه للأمر وقال: أنا أعوضكم، وأقوم مقام حاتم، وكانت أمه تسمع كلامه، فلما ذهب القوم، قالت له أمه: ما أظنك تستطيع القيام بما كان يقوم به أخوك، مع أنَّك رجل كريمٌ جواد، قال لها: كيف ذلك يا أماه؟ قالت: حينما وضعت أخاك حاتم، ورفعته إلى صدري لأرضعه أبى أن يرضع وأعرض عن صدري وظلَّ على ذلك أسبوعاً حتى خشيت عليه الهلاك، وحينما جاءت إليَّ إحدى نساء قومنا ومعها رضيعها، أخذته منها ورفعته إلى صدري فرضع، ثم رفعت إليه أخاك حاتم فرضع، فكان لا يرضع من ثدي حتى يرضع مولود آخر من ثدي آخر، لقد ولدت سجية الكرم والجود مع أخيك وبدأ بها قبل أن يعرف من الدنيا شيئاً، أما أنتَ فما كدت أرفعك إلى صدري حتى التقمت ثدياً، ووضعت يدك على الآخر، وشتان بين الحالتين.
ومع ذلك فقد كان أخو حاتم، كما هو شأن معظم قبيلة طيء، صاحب جود وكرم. وإذا كان للجبلَّة والطبيعة والسجيَّة دور كبير في صناعة النماذج البشرية المضيئة فإنَّ التربية على مكارم الأخلاق، والحرص على تنمية سجايا الخير من قبل الأسرة والمجتمع، والمدرسة، والإعلام، ذات دور كبير في صناعة «النماذج المضيئة» التي نتحدَّث عنها، وفي مغالبةِ نوازع الضعف، ودوافع الشرِّ الموجودة في النفوس، وفي نتائج التربية النبوية المذهلة لجيل الصحابة ما يؤِّكد هذا المعنى.
ونحن نعرف في المجتمعات البشرية من جالد نفسه، وجاهدها، وقاوم خمولها وكسلها، وعزوفها عن بعض الأعمال الجليلة حتى أصبح من النماذج المضيئة التي نتحدث عنها.
أَرِقَ الإمام الجليل أحمد بن حنبل - رحمه الله - ذات ليلٍ فلم ينم، ورآه ابنه على هذه الحالة، فسأله عن سبب أرقه، فأخبره الإمام أحمد بأنه تذكَّر في هذه الليلة القبر وحسابه والآخرة وما فيها من النعيم المقيم، أو الشقاء، وما فيها من الحساب الدقيق على أفعال العباد، وتذكَّر المعتصم «الخليفة العباسي» وما حدث من ظلمه للإمام وقسوته عليه، وأمره بسجنه وضربه ضرباً شديداً، مع ما في المعتصم من بعض الخصال الحميدة، فأشفق عليه من عذاب الله، وأخذ يردِّد الإمام أحمد كلمات يدعو فيهن بالمغفرة للمعتصم، لعل الله أن يعفو عنه، وحينما رأى الإمام أحمد نفسه الوزير القاضي أحمد بن أبي دؤاد صاحب فتنة القول بخلق القرآن، وقد أصبح كومة من العظام بعد أن أصابه الشلل حزن لحاله، ودعا له بالهداية قبل الممات.
هذا المَثَل المشرق والأنموذج المضيء يستحق وأمثاله أن يقدَّم لشبابنا للترقي بأخلاقهم، وتربيتهم تربيةً تجعلهم نماذج مضيئة في الحياة.
إشارة:
هل يُطلب الماء ممن يشتكي عطشاً
هل يطلب الثوب ممن جسمه عاري |
|