Friday 7th november,2003 11362العدد الجمعة 12 ,رمضان 1424

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

من أين لك.. هذا؟! من أين لك.. هذا؟!
مطلق بن سعود الفغم

لا شك أن تقدم المجتمع وتطوره مناط بما وصل إليه هذا المجتمع من تنظيم وتنسيق لشؤون حياة الجماعة فيه. وبمقدار هذا التنظيم يحكم على هذا المجتمع بالنجاح والتطور، أو بالفشل والتخلف؛ والمسؤول دائماً في المجتمع أمام الرأي العام هو هيئاته الحاكمة، ولا ريب أن التنظيم هو أساس كل نهضة، فكما أن القوة وحدها لا تبني مجتمعاً فإن المال أيضاً لا يمكن وحده أن يسعد الجماعة السعادة المنشودة وإن أسعد الفرد. وقد يقول البعض: إن مجتمعنا يملك كل وسائل الإصلاح المطلوبة لسعادة المجتمعات ، ولا يحتاج إلى المزيد، ولكننا نقول: إن وسائل الاصلاح وأسلوبه لابد وأن تتغير بتغير الظروف الزمانية والمكانية والعادات والبيئات؛ ودليل ذلك أن القوة قد تكون أحسن وسيلة في وقت؛ بينما يكون إصدار الأنظمة والقوانين - في مثل هذه الظروف التي يعيشها مجتمعنا - بما يحطه من ظروف تضمن تطبيقها أنجح الوسائل كلها للإصلاح الديني والأخلاقي، وما اتصل بهما من أمور، فضلاً عن الإصلاح الاجتماعي والتشريعي والقضائي هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن تعدد المشاكل في مجتمعنا، وتنوع أساليب المعاملات، واختلافها تبعا للتطور والتقدم لهذا المجتمع لفي حاجة إلى إيجاد حلول خالية من الخلافات لضمان عدل أكثر، وسرعة في الفصل بين الخصوم. وهذه الحلول موجودة في مصادر الشريعة الإسلامية؛ وقد صدر منها بالفعل بعض الأنظمة المتعددة إلا أنها ما زالت تحتاج إلى المزيد كما أسلفنا.
ومما لا شك فيه أن الأنظمة عندماتوضع فإنما هي تمثل أوامر أولي الأمر الذين تجب طاعتهم في حدود الشريعة بحسب ما يحقق الصالح العام للبلاد؛ دون نظر إلى مصلحة الأفراد الخاصة؛ فالذي يُراعى في سن الأنظمة وتطبيق الأحكام هو مصلحة الجماعة دون مساس بحقوق الأشخاص إلا بطرق مشروعة. وعليه فما دام مجتمعنا اليوم قد تعقدت حياته فلم تعد من البساطة كما كانت عليه من قبل؛ فلا شك أن الأمور قد احتاجت إلى تسهيل أكثر وتيسير بقدر المستطاع؛ فضلاً عن كون عصرنا الحالي يعاني كثرة المشاكل والمشاغل التي تحتاج إلى الحلول السريعة والضمانات الكفيلة بحماية الأفراد من المشكلات التي تواجههم بسبب غياب بعض الأنظمة.. مثل نظام مكافحة الثراء الحرام - من أين لك هذا -. فإن مثل هذه الأنظمة قد أضحت ضرورة من ضرورات الحياة في مجتمعنا ليعرف كل فرد كيف يعامل وكيف يتعامل بالطرق المشروعة!، وماهي حقوقه وواجباته. غير أننا نريدها أنظمة من صلب مبادئ ديننا الحنيف - الذي اجتمع فيه كل قديم وحديث - ووفق أهدافه. ولا نكون في عداد المبتدعين إذا طلبنا إصدار بعض الأنظمة التي تكافح الثراء الحرام.. فقد روي في الأثر ما معناه: «إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن»؛ فإننا نرى في مجتمعنا اليوم، وفي غيره من المجتمعات الكثير من الأفراد تراهم يحسبون للأنظمة التي يصدرها أولو الأمر ألف حساب؛ وقد لا يمنعهم من ارتكاب الجرائم أو المجاهرة بها إلا خوفهم من السلطات العامة في الدولة. وعليه فما دامت الغاية من إصدار هذه الأنظمة هي إقامة حدود الله وحفظ حقوق الأفراد ورعاية مصالح الأمة في المال والبدن والنسل والعرض والعقل؛ فبأي طريق استخرج بها العدل والقسط فهي من الدين وليس مخالفة له؛ ما دام أنه من شأن هذه الأنظمة على قواعد الشريعة دون استحداث أحكام تعارضها، ونحن حين نخص بالحديث مكافحة الثراء الحرام وإصدار نظام تخاطب آلته الجميع: «من أين لك هذا؟» فذلك لأن الاستفادة المادية من الوظيفة العامة أمر محتمل لدى النفوس المريضة من العاملين الذين تسول لهم أنفسهم في غفلة من ضميرهم ومن مخافة الله عز وجل أن يستغلوا وضعهم وسلطتهم التنفيذية في التمييز في معاملة المواطنين وقضاء حوائج بعضهم على حساب الآخرين واكتساب رشوة أو هدية مادية من الشخص المنتفع بالخدمة. وحديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - المروي في الصحيحين عن أبي حميد الساعدي رضي الله عنه يعطينا مثالاً لهذا الاستغلال للوظيفة ورأي الإسلام فيها.
قال: «استعمل النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً من الأزد يقال له ابن اللتبية على الصدقة فلما قدم قال: هذا لكم وهذا أهدي لي، فهلا جلس في بيت أبيه أو بيت أمه فنظر أيهدى إليه أم لا؟ والذي نفسي بيده لا يأخذ منه شيئاً إلا جاء به يوم القيامة يحمله على رقبته إن كان بعير له رغاء أو بقرة لها خوار أو شاة تثغو؛ ثم رفع يديه حتى رأينا عثرتي إبطيه وقال: «اللهم هل بلغت اللهم هل بلغت ثلاثاً». والذي يتضح من هذا الحديث الشريف أن الهدية للموظف العام الذي يتمتع بسلطة ما تؤثر في مصائر أفراد المجتمع هي نوع من الرشوة ما كان لينالها لولا وجوده في ذلك المنصب. فضلاً عن كون هذه الرشوة تتكدس في خزانته وتتعاظم وتتكاثر لديه فتضخم ماله فتزداد به مظاهر الثراء المحرم.ومما له دلالته في هذا الصدد أن الخليفة الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه يعد أول من أسس نظاماً جاداً في مواجهة الولاة لمكافحة الثراء الحرام «من أين لك هذا؟!». حيث اتخذ أسلوباً فريداً في الرقابة على الولاة والعمال. ومما يذكر عنه أنه كان يكتب أموال عماله إذا ولاهم حتى يكون ذلك معياراً لمحاسبتهم.. ومما يذكر عنه أيضاً أنه مر ذات يوم ببناء من حجارة وجص؛ فقال: لمن هذا؟!. فذكروا عاملاً له على البحرين. فقال: «أبت الدراهم إلا أن تخرج أعناقها» وشاطره ماله. ولا غرابة في ذلك فالفاروق عمر هو الذي كان ينصح ولاته بقوله: «اجعلوا الناس عندكم سواء قريبهم كبعيدهم؛ وبعيدهم كقريبهم. إياكم والرشا والحكم بالهوى، وأن تأخذوا الناس عند الغضب. فقوموا بالحق ولو ساعة من نهار».
وختاماً فلقد شهد تاريخ الإسلام في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه كثيراً من مصادرة الأموال عندما تأكد أو اشتبه في استغلال العاملين لمراكزهم العامة. وإن كان هذا حال الدولة المسلمة في عصورها الأولى؛ فهل للدولة المسلمة في وقتنا الراهن أو في أي وقت أن تنتج أساليب الرقابة الإدارية الفعالة لتمنع استغلال الموظف العام لوظيفته وسلطاته؛ وهل يجوز لها أن تصدر الأنظمة التي تعالج هذا الأمر متى شاءت؟؟. وما دام الإجابة بالتأكيد نعم فلماذا لا نصدر نظاماً يقول للموظف العام أو لغيره: «من أين لك هذا؟؟».

*) المحامي والمستشار القانوني

 

[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-janirah Corporation. All rights reserved