نعم مبروك - قلتها لمتقاعد - ونهرني، وقال - متقاعد - وتقول لي مبروك - قلت نعم - مبروك، ثم مبروك، ثم مبروك، لأنك تقاعدت على صحة وعافية وقوة، لم تتقاعد بسبب شلل نصفي أو كلي، لأنك لم تتقاعد من أمراض عضلية مؤسفة، لهؤلاء ندعو لهم بالشفاء العاجل ولا نقول لهم مبروك، لأنها لا تنطبق على حالهم وقلة صحتهم، أما الذي تقاعد على صحة، وقوة لم يتغير ببنيان جسده وجسمه وبنيته شيء، مفروض عليه أن يقيم عيداً لوجه الله يدعو إليه الأقارب والأصحاب، كونه تقاعدوا وهو بشبابه ونال حريته وهو بأعلى درجات القوة وشبابية التحرك، هناك من تقاعدوا مبكرين وهم يئنون من الأمراض الداخلية والظاهرية.
وهناك من تقاعدوا عند السن النظامية وهم من مستشفى إلى مستشفى، ومن مدينة إلى مدينة يبحثون عن العلاج الشافي بعد الله، أنهكتهم الأمراض وهم على رأس العمل حتى جاء تقاعدهم وهم لا يعلمون أهم تقاعدوا أم مازالوا؟ تساوت لديهم من عذاب السقم، شفاهم الله ورحم من ودع هذه الحياة بجناته ورحماته، ثم يقول لي المتعافي الشبابي الذي يتمتع بأرقى درجات الصحة والعافية يقول - تبارك لي تقاعدي - إنه الجاهل الذي فكر وفكر بالراتب الشهري والزملاء بالمكتب والحضور والانصراف - فقط - ولم يفكر بما هو فيه من صحة امتاز بها عن غيره الذين يئنون على سرر المرض، ومنهم وراء القضبان بالسجون، نسي أن الله أكرمه وقال له خذ مكافأتك في هذه الدنيا، تقاعداً صحياً لا أمراض ولا سجون، عش مع عائلتك بقية عمرك سليماً معافى، عصرنا هذا عصر المادة نسوا قدر الله، وفكروا بالراتب والحضور والانصراف، حسبوا أنهم في شبابية مطلقة، ولا عجز سيأتيهم، وحسبوا من تقاعد انتهى عمره وصار يترقب الموت، والعياذ بالله، اللبيب الذي إذا تقاعد على صحة وعافية وسلامة مال وأسرة متكاملة حمد الله، وصار فرحاً مسروراً غير ضائق ولا متضايق، ولا يشمت بالناس إذا باركوا له بالتقاعد، أضرب مثلاً لا حصراً بمن لم يعرفوا الوظائف الحكومية كملاك المؤسسات والدكاكين والأعمال الحرة هل تقاعدوا؟ أبداً مضوا بكل وعي وإدراك، حتى سلموا الراية التجارية لغيرهم حباً للتوسع بالراحة لأنهم حمدوا الله على ما هم به من أنعام هم السبب بعد الله في زيادتها ونمائها، ومن خلف إلى سلف، وكذلك التقاعد، سن نظامية ممتازة نسأل الله عدم زوالها، يعيش الإنسان بقية عمره، يوماً أو يومين، عاماً أو عامين، أو أكثر، في حرية مطلقة يتنفس أنفاس الراحة، ويتذكر أيام كان شاباً يافعاً يتمتع بالحرية، لأن الوظيفة مراسمها شديدة ونظامها مبهم، والالتزام واجب تجاهها، فتجد الموظف غارقاً غرقاً نظامياً في الحضور والانصراف، وقالت العلاوة وقالت الترقية، وقال الانتداب، وقال خارج الدوام.. وهلم جرا.. من سلبيات الوظيفة وايجابياتها، وثب من على ظهر مطيتها فإذا تقاعد، كأنه رمي من على صهوة حصان، صار يلملم جسده، ويتأسف على وظيفته وزملائه. ناهيك عن المدير الناجح حين يودع مركزه المحبوب وزملاءه، والمعلم المحترم أمام إدارته وتلاميذه، والضابط العسكري أمام إدارته وأفراده الذين لمسوا منه العدالة والليونة وحبهم وحب عملهم.
|