مضى شطر من رمضان، والناس في معهود أعمالهم، يراجعون أعمالهم التجارية أوالصناعية أوالمالية في أي شعب وجهوها للإستثمار، حتى يعرضوا ذلك على المحك المادي..ربحاً أو خسارة، نفعاً أو ضرّاً.. وبهذه المعادلة يحصل الرضا والقناعة إذا كان ميزان الربح راجحاً، وترتاح النفس لهذه النتيجة، لتطلب الزيادة، وزيادة الخير خير، أما إذا كان العكس فإن صاحب العمل يبدأ في مراجعة أموره ومنهج العمل، ومستوى الإدارة، ليحسِّن مما بدر من نقص، وليتلافى ما حصل من هفوات، وليعدل في أسلوب العمل والإدارة لعلَّ شيئاً من هذا العمل الذي اجتهد فيه، بعدما استشار ذوي الرأي والخبرة، يحقق مطلباً في نفسه، ورغبة طمح إليها عندما رنا فكره لهذا الطريق الذي استثمر فيه جهده وماله.
هذا من النواحي المادية، التي مقياس نتيجتها يبرز مادياً بأرقامه المحسوسة ربحاً أوخسارة..
لكن المحاسبة مع شهر رمضان لكل نفس وعملها، خلال الشطر الذي انقضى من هذا الشهر، تختلف عن الأعمال السابقة، لأن ربحها أو خسارتها محصور في أمور يمكن تلافيها، أو في اعادة جدولة ذلك العمل وتقويمه.. إلا أن شهر رمضان الذي لا يتكرر في السنة غير مرة واحدة، شهر من بين اثني عشر شهراً، هذا لمن أمدَّ الله في عمره ليدرك رمضان الآخر، أما من ضيَّع فيه وتراخى متمنياً على الله وعلى نفسه الأماني، وواضعاً لعمره أمداً طويلاً، وهو لا يدري أو غاب عنه، أن الأعمار بيد الله، وأن الموت أدنى إليه من شراك نعله.
وهذا ما يجب أن نسير فيه خطوات مع النفس البشرية التي أدركها رمضان، وماذا كسبت في الأعمال السابقة: جهداً مبذولاً وعملاً متتابعاً، وعطاءً لوجه الله مقدماً، وهذا كما قال بعض علماء السلف: من علامة قبول العمل اتباع الحسنة الحسنة.
وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي قال فيه وهو يصعد درجات المنبر: آمين، آمين، آمين.. ولم يدر الصحابة رضوان الله عليهم، على ماذا يومِّن.. لكنه عليه الصلاة والسلام قال لهم: أتاني جبريل، وقال: يا محمد.. رغم أنف من ذُكِرتَ عنده ولم يُصَلِّ عليك، قل آمين فقلت: آمين، ثم قال: رغم أنف من أدرك والديه أو أحدهما، فلم يُدخلاه الجنة، قل آمين.. فقلت: آمين..ثم قال: يا محمد رغم أنف من أدرك شهر رمضان وخرج ولم يُغفر له، قل آمين..فقلت: آمين.
ومن سمع هذا الحديث، وأدرك دلالته، فإنه سيراجع نفسه عن الأوقات التي يذكر فيها عنده رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يُصِلِّ عليه، مع أنها كلمة سهلة ميسرة على اللسان، ولكن الشيطان يجعلها ثقيلة على لسانه، صعبة في المتابعة والاهتمام.. ويحاسب نفسه من أدرك والديه، وهما على كبر وفي أمسِّ الحاجة إليه أو أحدهما: كلمة طيبة، ولباقة في اللقاء، وتفقد لأحوالهما، وتلبية لما يطلبانه في شؤونهما.. إنه أمر سهل على من أراد الله به خيراً..
فإذا كانت هاتان الحالتان تحتاجان من الإنسان في تفقد أحواله تجاههما: ما قَدَّم بشأنهما، وما قَصَّر فيه، وما أعطى استجابة، وما منع بخلاً وشحَّاً، فإن تحرك عامل الخير، ودقَّق في دلالة ما نَبَّه إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبذل من نفسه: جهداً وعطاءً، فقد ظفر، وإلا لصق أنفه بالتراب ذلاًّ وندامة: لأن الكَيِّس من دان نفسه وتدارك قبل الفوات.
أما في شهر رمضان، وفي مثل هذه الأيام التي تنبئ عن الفرصة المتبقية، فإن في المحاسبة للنفس، وتفقد تصرفات البدن واللسان وبقية الجوارح، في كل هذا أمل بعرض الأعمال على محك المناقشة والموازنة، حتى يتدارك ما بقي من وقته قبل الفوات.
فالصائم في هذا الأمر المهم من سجل حياته، وخاصة في هذا الشهر المبارك: المحدد دخولاً وخروجاً، يجد نفسه وعملها محصورة في كل ضيِّق لمن طبيعة نفسه الضيق، وواسعاً لمن وسّعه الله عليه. ولنبدأ بيوم من أيام رمضان، ففي وقت السحر تأتي مساءلة النفس مع هدأة الليل بعد نوم أو سهر في ماذا قضيت ليلتك أيها الصائم، هل نمت مبكراً، حتى تنهض وقت السحر، وأنت قد أعطيت بدنك راحته، لنوم بالنية يتحول ليكون عبادة بقدر صدقك، للحديث الشريف «إنما الأعمال بالنيّات وإنما لكل امرئ ما نوى».
* ولئن أدرك الصائم أن الأعمال مقيدة، فإن القول أيضاً مراقب ومرصود، يقول سبحانه: {مّا يّلًفٌظٍ مٌن قّوًلُ إلاَّ لّدّيًهٌ رّقٌيبِ عّتٌيدِ} *ق 18* ، وفلتات اللسان التي لا يلقي لها الإنسان بالاً، تحبط العمل، وتورد المهالك، إذ معاذ بن جبل رضي الله عنه عندما أوصاه رسول الله صلى الله عليه وسلم: بحفظ اللسان، قال: يا رسول الله أنحن مؤاخذون بما نتكلم به؟، فأجابه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله الكريم: «ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يُكِبُّ الناس في النار على وجوههم، أو قال على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم»، ومع ذكر الموعظة القوية، الزاجر العظيم، نراه عليه الصلاة والسلام، يطلب قدحاً لتقيء فيه امرأتان، كانتا تغتابان الناس، وتتلذذان بذلك كشأن كثير من الناس اليوم، وخاصة النساء اللواتي لا تحلو مجالسهن إلا بذلك، فليت الجميع مع محاسبة النفس يتعظون بأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم - وفي رمضان آكد - عندما قاءتا قيحاً ولحماً عبيطاً فقال عليه الصلاة والسلام: «لقد صامتا عمَّا أباح الله وأفطرتا على ما حَرَّم، ولو ماتتا على ذلك لدخلتا النار».
وما أكثر ما يضيِّع الناس أوقاتهم في رمضان، فيما يعود عليهم بالضرر، من حيث لا يدرون، ولو استبدلوا ما يتلذذون به من كلام، يجرُّهم إلى الشر، بكلام يجرَّهم إلى الخير: ذكر الله وتسبيحه، وتحميده وتهليله، وبأيِّ نوع من الأدعية التي تخطر على بال الصائم، أو بما يتيسر من القرآن الكريم.. أو الكلام الطيب مع من يتحدث إليه.. لكان أنفع له وخاصة في هذا الشهر الكريم الذي تضاعف فيه الحسنات وتقال فيه العثرات، ومن المحاسبة البحث عن مداخل الخير ثم الاتجاه إليها، مثلما يبحث التاجر عن طرق الارباح في تجارته، ولو أدرك المحاسب لنفسه الفرق بين قطع ما يسميه فراغاً في قراءة غير ناقصة، أو تسلية لم يأذن الله بها، ووقت يضيِّعه بملهيات أو مشاهدات من وسيلة اعلامية عديمة الفائدة، وبين أن يقضي ما يسميه فراغاً في خلوة مع الله سبحانه: بركعات يناجي فيها، ويخشع بجسمه وأعضائه، وقلبه وفؤاده، أما خالقه في هدأة الليل والناس نيام يناجيه بالخفاء، ويطلب منه الاعانة على شكره وذكره وحسن عبادته، إنها معادلة تستوجب الاحساس الدقيق، والنظرة البعيدة، لأن تفكُّر ساعة، خير من عبادة سنة كما يقال.. والتوسع في ذلك يطول..
لكن في هذه النظرة إذا كانت بتأمل وتجرد، شعاع ينير القلوب فيما تبقى من رمضان، وفرصة يجب أن تنتهز قبل فوات الأوان، فتكون الحسرة، ولات ساعة مندم فمحاسبة النفس، دعوة إلى ادراك النقص، وتعويضه بالجدِّ والاجتهاد، حتى لا يكون يومه أضعف من أمسه والكيِّس من أخذ لكل أمر أهبته، وتابع مقارنة يومه بالأمس، ليكون هدفه التحسين، وادراك مواطن العجز لينشط.
العزة لله ولدينه:
كان لمسلمة بن عبد الملك مواقف في التصدي للروم، ودخول القسطنطينية، بعد أن أذلَّ الله ملكهم «أليون» فبعد الانتصارات التي ذكرها صاحب كتاب محاضرة الأبرار والمؤرخون بعد هزائم جيوشهم وفتح بلدانهم واحدة بعد الأخرى، قال له«أليون»: ما الذي تريده، فقال: عزمت على ألا أرجع حتى أدخل مدينتك، قال أليون» ادخل وحدك ولك الأمان فقال مسلمة: نعم على أن آمر البطَّال - أحد قواده- وأصحابه بالوقوف على باب القسطنطينية ولا يغلقون الأبواب: فقالوا: لك ذلك. ففتح الباب الأعظم، فثبت أصحاب مسلمة عليه والبطال على الباب ثابت، ما يزول ولا يتحرك.
قال مسلمه: إني داخل فاثبتوا على الباب، فإن صلَّيتم العصر، ولم أخرج، فأقحموا بخيلكم على المدينة، فاقتلوا من أصبتم والأمير من بعدي: محمد بن مروان، فركب على فرس أشهب، عليه ثياب بيض وعمامة، متقلداً بسيفين: سيف أبيه وسيفه، حتى دخل وبيده الرمح، فصفَّ له ملك الروم الخيل، من باب المدينة إلى باب الكنيسة العظمى، كلما مر بقوم ساروا خلفه، وقد رمقوه بأبصارهم، وهم يتعجبون من شجاعته وشدته، وجرأته، فلم يزل يتقدم حتى وصل إلى قصر أليون، فخرج إليه «أليون» فقبَّل يده، فقال مسلمة: أنت «أليون»؟ قال: نعم، قال: فأين الكنيسة العظمى؟ قال: هذه.
فدخل مسلمة على فرسه، فجزعت الروم من ذلك جزعاً شديداً، فلما دخل إلى الكنيسة نظر إلى صليبهم الأعظم، وهو موضوع على كرسي من ذهب، وعيناه ياقوتتان حمراوان، وأنفه زبرجدة خضراء، فلما نظر مسلمة إليه، أخذه فوضعه على قربوس فرسه، فقالت الرهبان لأليون: لا ندعه فقال أليون لمسلمة: إن الروم لا ترضى بهذا، فحلف لا يخرج حتى يأخذه، فقال «أليون» للروم: دعوه يخرج به، لكم عليَّ مثله، وإلا دخل عليكم البطَّال.. فأخذه وخرج وهو على فرسه، و«أليون» مسايره، حتى إذا توسط المدينة، رفع الصليب على الرمح.
فلما نظرت الروم إلى ذلك همُّوا به، ثم فكروا في خراب مدينتهم إن قتلوه، فنكسوا رؤوسهم، فخرج والصليب على رمحه بعد العصر، وقد هَمَّ القوم بالدخول، فلما نظروا إليه كبروا تكبيرة واحدة، كادت الأخرض تخور بهم، وسرّوا بخروج مسلمة سروراً عظيماً، ورجعوا إلى مدينتهم التي أقاموا بها سبعة أعوام، وبعث إليه ملك الروم خمسة آلاف رمكة، وعشرة آلاف أوقية مقتّة، وستة آلاف أوقية ذهب، وتاجاً مفصصاً بالدر والياقوت فقسَّم المال في جيشه وكان عددهم أربعة وأربعين ألف رجل. «محاضرة الأبرار، ومسامرة الأخيار 2:297 - 298.
|