منذ بدء الصراع العربي- الصهيوني، والوضع العربي يوصف بعموميته بالوضع الحرج والصعب والمتأزم، والوضع الفلسطيني بشكل خاص، كان يوصف دائماً بالوضع الدقيق والحرج والطارىء والذي يحتاج دائماً إلى اجتراح إجراءات وسياسات خاصة وطارئة واستثنائية، لمواجهة تلك الأوضاع الدقيقة والحرجة والطارئة التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني في الداخل والشتات على السواء، أو تمر بها القضية الفلسطينية، أو فصائل المقاومة الفلسطينية، وبالتالي منظمة التحرير الفلسطينية.
ولم تكن قبل قيام سلطة الحكم الذاتي مثل هذه الأوصاف لتستوقف أحداً، لأنها كانت لا تعدو كونها تكرارا لتوصيف حالة من المعاناة التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني وقضيته.
والهدف من الإعلان عن ذلك كان تحقيق مزيد من الوحدة الوطنية، أو مزيد من استشعار الأخطار المحدقة بالشعب الفلسطيني وقضيته، وما يستوجبه من تجميع لطاقات وقوى الشعب الفلسطيني أولاً، وقوى وطاقات الأمة العربية والقوى المناصرة للشعب الفلسطيني وقضيته ثانياً، لمواجهة تلك الأخطار الدائمة والمتجددة التي تواجه الشعب الفلسطيني وقضيته.
ولكن بعد توقيع اتفاق الحكم الذاتي في 13/سبتمبر/1993م وما تلاه من اتفاقات بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل، وما ترتب عليها من إنشاء سلطة الحكم الذاتي في أجزاء من الضفة الغربية وقطاع غزة، وانتقال سلطة إدارة شؤون الفلسطينيين في مجالات محددة من إسرائيل إلى هذه السلطة المحدودة، أصبح لهذه المفاهيم مدلولات أخرى في قاموس السياسة والإجراءات الفلسطينية، حيث أصبح الشعب الفلسطيني مسؤولاً عن إدارة نفسه في المجالات التي حددتها تلك الاتفاقات، وقد أقر المجلس التشريعي النظام الأساسي لسلطة الحكم الذاتي طبقاً لما تحدده الاتفاقات الموقعة بين منظمة التحرير الفلسطينية وحكومة إسرائيل.
وقد نص في إحدى مواده على تنظيم حالة الطوارىء، والتي تتولى بموجبها السلطة التنفيذية تصريف الشؤون العامة دون الحاجة لأخذ موافقة السلطة التشريعية«المجلس التشريعي» وذلك لمدة محدودة، حددها النظام الأساسي للسلطة الفلسطينية بشهر واحد قابلة للتجديد لشهر آخر فقط بعد أخذ موافقة المجلس التشريعي، وذلك ضمن ضوابط محددة في النظام الأساسي، وإذا قارنا هذا الوضع الدستوري الذي نص عليه النظام الأساسي لسلطة الحكم الذاتي الفلسطيني بدساتير الدول المستقلة، فإننا نجد كثيراً منها قد نصت على حالات مماثلة أو شبيهة، وبينت الأسباب التي تؤدي إلى تفعيل هذه النصوص، وأنه في غالب الأحيان يعود تقدير مثل هذه الحالات التي يلجأ فيها الى تفعيل حالات الطوارىء أو حالات الاستثناء في تلك الدساتير إلى رئيس الدولة، أو رئيس الوزراء، وأحياناً لابد من أخذ موافقة البرلمان على ذلك، وتكون في غالب الأحيان لمدة محدودة، ويعود الأمر في تقدير زوال الأسباب التي أدت إلى تفعيل حالة الطوارىء والاستثناء إلى رأس السلطة التنفيذية في أغلب الأحيان أو إلى البرلمان، ومهما قيل من مبررات في حالة الطوارىء، فإن الأخذ بها هو انتقاص من ديمقراطية تلك الدساتير، وتعطيل للسلطة التشريعية المعبرة عن إرادة الشعب.
والحالة الفلسطينية اليوم أين هي من ذلك؟ وما هي الدواعي والمستجدات التي طرأت على الوضع الفلسطيني لتفعيل حالة الطوارىء التي نص عليها النظام الأساسي لسلطة الحكم الذاتي؟!
هل هي أمام خطر جديد يهددها؟! أم أن الوضع الفلسطيني أمام مجموعة من الاستحقاقات السياسية والأمنية والإدارية اقتضت تفعيل هذه الحالة، لتمرير وفرض تلك الاستحقاقات على الشعب الفلسطيني؟!!.
تساؤلات كثيرة من حق أفراد الشعب الفلسطيني ومنظماته الفاعلة أن تتساءل عنها، وأن تجد الإجابات الشافية عن تساؤلاتها، لما يمكن أن يترتب على مصير الشعب ومستقبله ومستقبل قضيته من تلك الإجراءات الاستثنائية التي قد تقدم عليها السلطة التنفيذية أثناء فترة مزاولتها لحالة الطوارىء.
لذلك وجدنا أن جميع الفصائل الفلسطينية سواء المنضوية تحت لواء منظمة التحرير أو الفصائل الأخرى، وفي مقدمتها حركة فتح العمود الفقري لمنظمة التحرير الفلسطينية وللسلطة الفلسطينية تعارض إعلان حالة الطوارىء، أو تشكيل حكومة طوارىء، وقد طلبت جميع الفصائل من رئيس الحكومة أحمد قريع «أبو العلاء» بالعدول عن تشكيل حكومة طوارىء والاتجاه نحو تشكيل حكومة عادية، تستند إلى قاعدة شعبية عريضة تمثل حكومة وحدة وطنية قادرة على مواجهة المستجدات والظروف الطارئة على الساحة الفلسطينية.
إن حالة القلق هذه، التي تسود أوساط الشعب الفلسطيني وفصائله لها ما يبررها أمام المطالبات الدولية والضغوط الأمريكية الإسرائيلية التي تتعرض لها السلطة الفلسطينية من أجل «تفكيك بنية الإرهاب» أي تفكيك فصائل المقاومة، وتجريد الشعب الفلسطيني من أهم أوراق الضغط التي يمتلكها في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي وإجراءاته الوحشية.
إن الإذعان لهذه المطالب الأمريكية الإسرائيلية قد يؤدي إلى مواجهة فلسطينية- فلسطينية وهذا ما يسعى الجميع من الفلسطينيين إلى تجنبه، سواء السلطة الفلسطينية وعلى رأسها الرئيس أبو عمار، وكذلك رئيس حكومته أبو العلاء وجميع الفصائل الفلسطينية، لأن الجميع يدرك أنه لا يمكن اختزال القضية الفلسطينية إلى مجموعة من الترتيبات الأمنية بين الطرف الإسرائيلي والطرف الفلسطيني، فالقضية أعم وأشمل وأعمق من ذلك بكثير.
إن ما يتعرض له الشعب الفلسطيني وسلطته الوطنية منذ 28/9/2000م أي منذ الزيارة المشؤومة لآرئيل شارون للمسجد الأقصى والتي كانت السبب المباشر وراء انطلاق الانتفاضة المباركة، يكشف بما لا يدع مجالاً للشك عن جوهر نوايا إسرائيل للإجهاز على سلطة الحكم الذاتي التي ولدت نتيجة الاتفاقات السابقة، وإحداث انقلاب على مجمل أسس عملية السلام التي بدأت في مؤتمر مدريد سنة 1991م، وقد دفعت إسرائيل بشكل ممنهج بتصعيد سياسة العنف ضد الشعب الفلسطيني وسلطته الوطنية مستخدمة بذلك مختلف وسائل الحرب المتوفرة لديها، ومختلف وسائل الضغط النفسي والاقتصادي، ولم يبق من اتفاقيات الحكم الذاتي في الواقع إلا النزر اليسير الذي يلبي حاجتها، وهي تطالب السلطة الفلسطينية أيضاً بالانحياز التام إلى ترتيباتها الأمنية في مواجهة الشعب الفلسطيني وفصائله المقاومة، بعد أن دمرت وبشكل ممنهج البنى الأمنية والعسكرية للسلطة الفلسطينية في مختلف مدن الضفة الغربية، التي لم يعد يوجد فيها للسلطة الفلسطينية أي وجود أمني قادر على ضبط الامور الامنية أو غيرها إلا في حالة التزام إسرائيل التام بما يتوجب عليها من الالتزام به بموجب الاتفاقات الموقعة في هذا الشأن، وبالتالي سحب قواتها العسكرية إلى المواقع التي كانت فيها قبل 28/9/2000م، ورفع حواجزها وقيودها العسكرية التي تقطع أوصال المناطق الفلسطينية، وترفع القيود التي فرضتها على حركة أبناء الشعب الفلسطيني وقيادته وإزالة جدار الفصل العنصري، وفي مقدمتها رفع الحظر عن حركة الرئيس ياسر عرفات المحاصر منذ سنتين وإعادة الاعتبار له، كقائد للشعب الفلسطيني ورئيس للسلطة الوطنية الفلسطينية والمرجع الأعلى لأي سلطة تنفيذية بما فيها رئيس الوزراء الفلسطيني.
إن التطمينات التي أطلقها رئيس الوزراء الفلسطيني أحمد قريع أبو العلاء بأن حكومة الطوارىء لن تنجر إلى حرب مع الفصائل وليست موجهة ضد أحد، وإنما تهدف إلى ضبط الوضع الفلسطيني من خلال ما سمي«ضبط فوضى السلاح»، والوصول إلى هدنة شاملة مع الطرف الآخر، ورفع الحظر عن حركة الرئيس عرفات، لاشك أنها تعبر عن طموحات يسعى رئيس الوزراء الفلسطيني إلى تحقيقها، لأنها تمثل مفتاح العودة في نظره بالعلاقة مع الطرف الآخر إلى طاولة المفاوضات والابتعاد عن دائرة العنف الدائرة رحاها ولكنها غير كافية وغير مطمئنة، لأن الطرف الآخر الإسرائيلي لا يرى فيها استجابة لمطالبه ومبرراً كافياً لعودته إلى طاولة المفاوضات وإعادة اعتباره للاتفاقات الموقعة معه، انه سيواصل سياسة القتل والاغتيالات وتجريف الأراضي وبناء الجدار العازل والاستيطان والعزل والحصار للقرى والمدن والمخيمات الفلسطينية ملغياً بذلك أبسط مبررات استمرار وجود سلطة الحكم الذاتي، وإفراغها من أي مضمون إداري أو سياسي أو أمني، ليثبت من خلال ذلك عجز السلطة الوطنية عن إمكانية القيام بأي التزام توجبه خارطة الطريق على الجانب الفلسطيني، وبالتالي تكون إسرائيل في حل من جميع الالتزامات التي ترتبها عليها خارطة الطريق.
إن إسرائيل تهدف إلى القضاء على سلطة الحكم الذاتي كلية، أو الإبقاء عليها بشكل مفرغ من أي مضمون للسلطة، وتسعى إلى تحويلها إلى أداة أمنية تتستر من خلفها في تنفيذ خططها الخبيثة التي تهدف إلى استمرار ومواصلة الاحتلال والاستيطان للأراضي الفلسطينية، وتسعى إلى فرض حل يقوم على أساس تقاسم وظيفي في الضفة الغربية، يلغي في نهاية المطاف أي أمل للشعب الفلسطيني بالاستقلال وإقامة الدولة المستقلة.
إن هذه السياسات والتوجيهات والممارسات الإسرائيلية والتي تحظى بالمساندة الأمريكية، وتحاط بصمت دولي وعربي قد وضعت المشهد السياسي الفلسطيني في حالة من الالتباس والتعقيد لم يسبق لها مثيل، وفي حالة من الارتباك يبدو فيها الشأن الفلسطيني وكأنه أصبح يعاني من مرض صراع الأشخاص على المراكز أو الصراع على الصلاحيات، إن الأمر أعقد من ذلك بكثير، وأعقد من كونه مسألة خلاف دستوري، إن الأمر يحتاج إلى وقفة مع الذات الفلسطينية والعربية، وإبداع واجتراح السياسات الناجعة لمعالجة الوضع الفلسطيني والعربي ومواجهة السياسات الإسرائيلية الهادفة إلى قتل أي إرادة للسلام والاستقرار في المنطقة، من خلال سعيها الحثيث لتوسيع دائرة العنف، لتشمل أطرافاً عربية أخرى في مقدمتها سوريا، وقد يصل الأمر بها إلى إيران وغيرها من دول المنطقة.
فسواء كانت حكومة أحمد قريع «أبو العلاء» حكومة طوارىء أو حكومة عادية فإنها ستواجه هذه السياسة الإسرائيلية، وستصطدم بالمخطط الإسرائيلي- الأمريكي، الذي لا يمكن تعديله إلا بمواجهته بضغط عربي ودولي فاعل ونشط يكشف ازدواجية المعايير لدى السياسة الأمريكية وانحيازها للتصورات الإسرائيلية المتطرفة، ويدفع باتجاه بناء موقف دولي ضاغط على إسرائيل لوقف هذه السياسات التدميرية وردعها عن مواصلة غطرستها واستخدامها القوة المفرطة في مواجهة الشعب الفلسطيني وإلزامها باحترام الاتفاقات الموقعة معه، ومن ثم وقف كافة أشكال العنف بين الطرفين والتوجه إلى المفاوضات في إطار مؤتمر دولي برعاية الأمم المتحدة، يتم من خلاله التوصل إلى اتفاق سلام نهائي، وعلى مرحلة واحدة يستند إلى تنفيذ قرارات الشرعية الدولية تنفيذاً أميناً وكاملاً بشأن الصراع العربي الإسرائيلي ومبدأ الأرض مقابل السلام وإلا سوف تبقى دائرة العنف تتسع وتشتعل المنطقة كلها بنار يكون زيتها سياسة إسرائيل وأمريكا.
|