عندما تشتد الظلمة وتستحكم العتمة يبحث العقلاء عن ضوء يبدد هذه العتمة، وينير تلك الظلمة، وهكذا هي الحال عندما تدلهم الخطوب وتتراكم الأحداث فإن الحاجة إلى رؤية رزينة هادئة تصبح المطلب الأول للعقلاء لجلاء ما قذفت به تلك الخطوب من غبش، ولتحليل ما تمخضت عنه هذه الأحداث من آثار مباشرة وغير مباشرة آنية ومستقبلة.
وفي الآونة الأخيرة حدثت تطورات متعاقبة ألقت بظلال سوداء على مسار الأحداث في النطاقين الداخلي والخارجي أودت إلى أن يُضيَّق على المسلم حيث قادته خطاه في هذا العالم الفسيح، وكان لبلادنا بصفتها قبلة المسلمين ومهد الإسلام نصيب الأسد من التهم الباطلة بسبب الصورة السيئة التي رسمتها فئة ضالة باسم الإسلام وهو منها بريء في ظل التقدم التقني في وسائل الاتصال ووسائطه مما أتاح للشانئين والحاقدين استهداف هذه البلاد وأهلها عن طريق الاستخدام المغرض لهذه الوسائل وذلك بالتغرير ببعض من قلت بضاعتهم من العلم الصحيح والوعي اليقظ ممن أوتوا عقولاً ولم يؤتوا فهوماً تؤهلهم لتمييز النصوص وإدراك معانيها وحكمها وأبعادها.
وعند البحث في دفتر الأسباب والآثار والعلاج نجد ضرورة البحث عما يوقظ في النفوس الوعي المطلوب للوصول إلى الهدف المروم وهنا بدت أهمية إتاحة مساحات أرحب للحوار الفكري؛ لأنه الوسيلة القادرة على صناعة محاضن خيرة لاقتلاع الأخطاء من الأفكار المنحرفة.
وفي هذه الدائرة المهمة صدر حديثاً كتاب «رؤية حول تصحيح صورة بلادنا وإسلامنا»للأستاذ حمد بن عبدالله القاضي وهو كما يصفه مؤلفه رؤية إعلامية ومحاولة جادة للرقي بخطابنا الإعلامي للتفاعل مع الأحداث بطريقة مؤثرة بالحوار الحكيم والمجادلة بالتي هي أحسن.
كتب مقدمة الكتاب سمو الأمير نايف بن عبدالعزيز وزير الداخلية موضحاً أهمية الحوار مع الآخر القريب والآخر البعيد ومتمنياً أن يحقق المأمول منه في بيان سماحة الإسلام وحضارته الإنسانية الرائدة.
وفي الإضاءة الأولى للكتاب أوضح المؤلف الأسباب التي دعته إلى تقديم رؤيته الإعلامية والمنهجية التي حرص عليها لتكون مثالية في استلهامها وواقعية في تطبيقها ثم تحدث باختصار عن تداعيات الأحداث الأخيرة وآثارها في المسلمين ليورد بعد ذلك نماذج من التهم والإشكالات المطروحة حول الإسلام والمسلمين في الوسائل الغربية.
وفي صلب الموضوع نجد أن الرؤية التي عبر عنها المؤلف في كتابه صنعها من خلال منطلقات خصص لكل منها عنواناً خاصاً به فجاءت على النحو التالي: المنطلق الأول: الدين غير التطرف فيجب التفريق بينهما من منظور شرعي. المنطلق الثاني: من الداخل تبدأ الخطوة الحاسمة لجلاء الصورة مؤكداً على ضرورة تصحيح مسار الفكر المنحرف كي لا يستشري ومن ثمَّ علاجه. المنطلق الثالث: الإسلام يحارب الإرهاب منبهاً إلى ضرورة إبراز موقف الإسلام من الإرهاب أياً كان شكله وأياً كان مصدره. المنطلق الرابع: الوهابية فرية رد عليها الشيخ محمد بن عبدالوهاب بنفسه في حياته. المنطلق الخامس: الإسلام والتعددية، مؤكداً علي احترام الإسلام للأديان السماوية ودعوة الآخرين من خلال حوار موضوعي يستهدف سعادة الإنسان. المنطلق السادس: سماحة الإسلام القائمة على الحق والعدل. المنطلق السابع: الإسلام يحترم الإنسان. المنطلق الثامن: نماذج من سماحة الإسلام في ضوء نصوص الكتاب والسنة. المنطلق التاسع: نماذج من سماحة علماء الإسلام. المنطلق العاشر: مناهجنا بريئة. المنطلق الحادي عشر: العمل الخيري الإسلامي والاتهام الجائر بالإرهاب. المنطلق الثاني عشر: الإسلام لا يهمش المرأة بل يعطيها حقوقها. المنطلق الثالث عشر: بعض الآليات الإعلامية المطلوبة لتصحيح صورة الإسلام والمسلمين.
ولأن المنطلق الثالث عشر هو زبدة الكتاب وثمرة منطلقاته الأخرى فإنني سأقف عنده مع القارئ الكريم؛ موضحاً تلك الآليات ومبدياً وجهة نظري حيالها، فقد اقترح المؤلف عشر آليات، أما الآلية الأولى فهي توظيف الإعلام في الأقطار العربية والإسلامية توظيفاً قوياً للرد على التهم المثارة ملمحاً إلى أهمية تكثيف الوسائل الإعلامية، وأما الآلية الثانية فهي المبادرة بإنشاء قنوات إعلامية باللغة الإنجليزية تصل وتخاطب الإنسان الغربي وتطرح الإسلام بصورته الصحيحة النقية، وأما الآلية الثالثة فهي شراء أوقات إعلامية في وسائل الإعلام الغربية المختلفة ذائعة الصيت لإبراز سماحة الإسلام، وأما الآلية الرابعة فهي عقد ملتقيات ومؤتمرات في الدول الغربية يشارك فيها مسلمون وغير مسلمين لتوضيح صورة الإسلام أمام غير المسلمين، وأما الآلية الخامسة فهي عقد ندوات داخل العالم الإسلامي يشارك فيها علماء ومفكرون وإعلاميون مسلمون لبلورة تعاليم الإسلام بكل سماحتها ومعايشتها للعصر، وأما الآلية السادسة فهي بذل مزيد اهتمام داخلياً في بيان حرص الإسلام على وحدة الأمة وعدم الخروج على الحاكم، وأما الآلية السابعة فهي إبراز سماحة الإسلام في المناهج التعليمية في العالم الإسلامي، وأما الآلية الثامنة فهي توزيع ترجمة معاني نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة المتعلقة بالرد على التهم المثارة ضد الإسلام والمسلمين، وأما الآلية التاسعة فهي ضرورة تأسيس الخطاب الدعوي في العالم الإسلامي على الحكمة والموعظة الحسنة ونبذ العنف والغلو، وأما الآلية العاشرة فهي ضرورة تبني المنظمات العربية والإسلام الحكمة والموعظة الحسنة ونبذ العنف والغلو في خطابها ونشاطاتها وضرورة دعمها في هذا الشأن.
ووجهة نظري حيال تلك الآليات أن العالم العربي والإسلامي يملك عدداً كبيراً من وسائل الإعلام ولكنها تفتقد التوظيف القوي القادر على المنافسة في ميدان لا مجال للبقاء فيه سوى للأقوى فكرياً، كما أن القنوات الإعلامية باللغة الإنجليزية آلية ضرورية ولا يجادل في أهميتها مدرك لأهمية الإعلام اليوم بصفته قوة ثالثة إلى جانب الاقتصاد والجيش ولكني أهمس في أذن أخي حمد لا تشاؤماً ولكن من أجل تحقق مناخ لنجاح هذه الآلية فأقول: إن كثيراً من قنواتنا باللغة الإنجليزية في العالم العربي والإسلامي عجزت عن مخاطبة من يعيش بيننا ولديه خلفية ولو يسيرة عن واقعنا فكيف تنجح في مخاطبة الآخر البعيد؟
وبالنسبة لآلية شراء الأوقات في وسائل الإعلام الغربية المؤثرة فيحتاج إلى تخطيط؛ لأن تلك الأوقات في الوسائل المؤثرة باهظة التكاليف مما يعني ضرورة التدقيق في اختيار ما سيعرض مع دراسة كيفية التغلب على العقبات المتوقعة ممن لا يريد خيراً للإسلام والمسلمين في تلك الدول، وفيما يخص عقد ملتقيات في الخارج فإنه عند تنفيذ هذه الآلية لابد من الاستفادة من الملتقيات التي عقدت سنوات طويلة فالمتأمل بدقة في تلك الملتقيات يجد أنها لم تحقق آثاراً تكافئ ما يصرف عليها بسبب الانتقائية في اختيار الأشخاص حيث يتم اختيار الأصفياء لا الأكفياء كما أن الإعداد لبعضها كان هزيلاً من حيث الموضوعات والأشخاص فإذا لم نستطع اجتذاب مؤثرين في مجتمعاتهم وأكفياء متخصصين من أبناء جلدتنا قادرين على مواجهة الحجة بالحجة فإن عدم تلك الملتقيات سيكون حتماً خيراً من إقامتها ولك عبرة في ندوات حوار الحضارات وأخواتها التي تكاد لا ترى منها سوى ثقافة الاستجداء الفكري للآخر، كما أن الملحوظ على كثير من الندوات الفكرية التي ترعاها الجهات المحلية هو ضعف أوراق العمل المقدمة مع تكثيفها بضغطها في أوقات قصيرة مما يذهب فائدتها. وبالنسبة لتبني الخطاب الحكيم في المؤسسات الدعوية في الداخل والمنظمات الإسلامية فهو المطلب السوي ولكني بحكم تخصصي أقول: إن هذه الآلية تحتاج إلى آليات لتفعيلها. ثم إن تصحيح صورة بلادنا وإسلامنا ليس مسؤولية الدولة وحدها كما أنه ليس مسؤولية المواطن وحده، وإنما هو واجب الجميع، ولذا فإن الرؤية الإعلامية التي عرضها الأستاذ حمد القاضي في كتابه «رؤية حول تصحيح صورة بلادنا وإسلامنا» تحتاج إلى عمل جاد وتخطيط وتنسيق وأن تدعم برؤية علمية يشارك فيها كبار العلماء لترسيخ مفاهيمها، وبذلك تتحقق ثمرتها، وإلا ستبقى مسجونة في حبس الأماني.
وبالله التوفيق،،،
|