عندما يرغب المرء في إقناع الآخرين بفكرة ما فإن الأمر يتطلب تقديم صورة كاملة لموضوع الفكرة، إذ لا يكفي أن يصف موج البحر وظهور السفن حين يريد أن يتكلم عن حياة البحر في الماضي القديم.. لا بد له أن يفهم ما كان في قاع البحر من الغرائب والتيارات.. وقاع السفينة حيث يجلس عبيد وملاحون إلى المجاديف أياما كاملة يدفعون بسواعدهم بضائع تحملها السفن، وثروات وركابا.. وينزفون عرقا، وتتمزق أجسادهم تحت السياط.. أجل:
ينبغي أن يعطي الصورة الكاملة عندما يريد أن يقنع الآخرين بأمر من الأمور، وهذا ما سأحاول فعله في هذا المقال على الرغم من تشعبات موضوع العولمة وكثرة ارتباطاته، وتعدد ردود الأفعال العربية المشحونة بالعواطف والفوبيا تارة، والجهل والأنانية والاستبداد تارة أخرى، على أن الأمر لا يخلو من ردود أفعال عربية موضوعية ومنصفة تجاه العولمة لكنها نادرة وخجولة، وربما خائفة.
لقد أثارت العولمة جدلا قويا كان في بدايته مقتصرا على المثقفين والسياسين والمستثمرين في العالم العربي، أما اليوم فإن هذا الجدل أخذ يدب بين مختلف الشرائح والطبقات الاجتماعية العربية تقريبا، وعلى الرغم من مرور ما يزيد على ثلاثة عشر عاما على انفجار العولمة الحالية إلا أن الآراء والمواقف لا تزال مختلفة بشأنها، فالعرب ما بين مناهض عنيد غارق في الماضي، ومؤيد متحمس، وقلق متردد، وكل فريق يجهد في شرح وتوضيح الأسباب التي دعته إلى اعتناق موقفة، وربما لجأ بعض المناهضين للعولمة إلى الإرهاب المادي والمعنوي لفرض رؤاه على الآخرين.
إن من أكثر الشرائح الاجتماعية مناهضة للعولمة تلك التي يستند أفرادها في مناهضتهم على الدين والعادات والتقاليد والخصوصية الثقافية، وهم في مناهضتهم هذه يقدمون خدمة لشرائح ضيقة أخرى تتألف من أفراد تتقاطع مصالحهم الذاتية مع العولمة وشروطها، وفي مقدمة تلك الشروط: الشفافية ومحاربة الفساد الإداري، وتوسيع قاعدة المشاركة الشعبية في تصريف شؤون حياة المجتمع، والإعلاء من قيمة العلم والتكنولوجيا.
وكثيرا ما يستشهد العرب المناهضون للعولمة بالاحتجاجات التي حدثت في بعض المجتمعات الغربية ضد العولمة، جاهلين أو متجاهلين أن العولمة قد تنتقص، لأسباب تنظيمة، من بعض المزايا التي ينعم بها أولئك المناهضون منذ عقود خلت، أو تجعل غيرهم من أبناء الشعوب الأخرى ينعمون بمثل تلك المزايا كنتيجة للعولمة، في حين يرون، بدافع أناني، أنها من حقهم لوحدهم لأنهم هم الذين ابتكروها، وهذا هو مصدر الاحتجاجات.
أما المواطن العربي فغريق لا ضير عليه من البلل، كما سيتضح لاحقا عند الحديث عن واقع التخلف العربي، فضلا عن كون العولمة ستعود عليه بنتائج إيجابية يفوق نفعها ما يتوقع أن تأتي به تداعياتها من أضرار، وبخاصة أن تلك الأضرار قد تكون ناشئة إما عن سوء التفاعل مع العولمة، وإما عن أسباب سابقة في وجودها على العولمة كسوء التخطيط، ورداءة التنظيم، وتفشي الفساد، أو لكل ذلك معا، وهذا يعني أن العولمة قد لا تكون سببا مباشرا في ما يتجايل معها من سلبيات، وفي كل الأحوال فإن تلك السلبيات ليست مبررا صادقا وكافيا لمناهضة العولمة والوقوف عكس اتجاه تيارها القوي، فمما لاشك فيه أن المجتمع الذي لا يزال يفكر في إمكانية رفض العولمة مجتمع غارق في التخلف وموغل في الجهل، وسادر في أحلام الماضي، في الوقت الذي يجب عليه أن يفكر في الحاضر والمستقبل وأن يستثمر النتائج الإيجابية للعولمة، وأن يحاول التأثير في هذه الظاهرة من داخلها بواسطة التفاعل معها وليس برفضها والاعتزال عنها في الكهوف الثقافية للماضي.
من المؤكد أن سلبيات العولمة أقل من إيجابياتها، لا بل إنه لا يمكن حصر إيجابياتها، فهي متنوعة ومتعددة بقدر تنوع وتعدد مصالح الدول والأفراد والمجتمعات والأنظمة، وكما يؤكد الأستاذ الدكتور معن خليل العمر- وهو مرجع في هذا الجانب- أنه ليس بالضرورة أن يكون هناك انسجام بين الدول المنضوية تحت مظلة العولمة، غير أنه من الضروري أن تكون هناك مصالح مشتركة وأخرى متصارعة، لأن العولمة تتمثل في القوى الاقتصادية العالمية وقوى العلم والتقنية، وهي تهدف إلى تسخير السياسة لفائدة الاقتصاد، وتعدد نماذج الإنتاج واعتماد التنافس كآلية في نظام السوق، والذين يكتفون برفض العولمة بوصفها تجليا استعماريا صليبيا إنما ينزلقون إليها بصورة كلية في ممارساتهم اليومية، والعولمة ستجرف كل من يقف أمامها، وستجتاح الأبنية المتصلبة وتفتت أنساقها، في حين تتوافق مع البناء الاجتماعي المرن وتغذية وتأخذ بيده نحو الأفضل.
لقد بات واضحا أن التأثير في العولمة والاستفادة منها وتجنب أخطارها يأتي من خلال التعولم لا من خلال مقاومتها والابتعاد عنها، وحتى مع التسليم بحقيقة أن الأفراد لا يستفيدون من العولمة على قدم المساواة، فإنه من الظلم أن يحرم شخص من الأمل بأنه سيكون الأكثر استفادة منها وأن يخوض التجربة، فلم تعد هناك ثقافة تتمتع باستقلال مطلق، ولم يعد بإمكان أي مجتمع أن يضرب سورا حول نفسه مكتفيا بإنتاجه المادي والفكري، لأن العولمة أحدثت نزعة قوية نحو توحد، أو على الأقل تجانس، المشاعر الإنسانية تجاه آلام الإنسان أيا كان وفي أي مكان، والحدث الذي كان لا يعني سوى المجتمع الذي يقع فيه أصبح يؤثر على إنسان أو مجتمع في أبعد نقطة عنه في العالم اجتماعيا، وأمنيا، وسياسيا، واقتصاديا، وصحيا، وفي جميع المجالات.
لعل من أقوى المسلمات التي فرضتها العولمة أنه لا يمكن حتى للدولة القوية أن توقف العولمة، لكنه يمكن حتى لأضعف الدول أن تندمج وتؤثر فيها من الداخل لتجعلها أكثر عدلا، ومهما كان حجم هذا الاندماج والتأثير ضئيلا إلا انه أفضل، بكل المقاييس، من الموقف السلبي أو موقف المناهضة. فهل أدرك كل العرب هذه الحقائق بما فيه الكفاية؟
الجواب «لا» وهذا واحد من أبعاد تخلفنا، وعن سبب هذا التخلف يمكنني أن ألخص تشخيصا للحالة العربية تفتقت عنه قريحة البروفيسور محمد أركون إذ يرى إن تبنينا للحداثة المادية دون الفكرية لتلك الحداثة هو عمق تخلفنا، ويرى أيضا- في صميم العولمة -أن جذب الاستثمارات إلى الوطن العربي يتطلب من المجتمعات العربية أن تتسامح في بعض القيم والمعايير الاجتماعية.
وعلى الضفة الأخرى للفكر الإنساني يؤكد أرماتيا سن الحاصل على جائزة نوبل في الاقتصاد عام 1998م، أن العولمة ليست حماقة، فقد أسهمت في إثراء العالم علميا وثقافيا مثلما نفعت العديد اقتصاديا، وهي ليست شيئا جديدا فقد كانت وما تزال تمضي في طريقها على امتداد آلاف السنين خلال الترحال والتجارة والهجرة وانتشار التأثيرات الثقافية ونشر المعرفة وإشاعة التفاهم بما في ذلك نشر العلم والتكنولوجيا، ونحن لا نفقد هويتنا خلال تفاعلنا بإيجابية مع العولمة بل إننا نعرف بهويتنا وبدورنا من خلال ذلك التفاعل، وبغير ذلك التفاعل بإيجابية مع العولمة بل إننا نعرف بهويتنا وبدورنا من خلال ذلك التفاعل، وبغير ذلك التفاعل فإننا نضحمل شيئا فشيئا حتى نتلاشى.
أجد أن محمد أركون قد أصاب، فمظاهر حداثتنا المادية قد سحقت كل محاولة جادة للأخذ بالحداثة الفكرية، كما أجد أن أرماتيا سن قد أصاب أيضا فالعولمة ظاهرة أفرزتها إنجازات واعية وإن بدا أنها ظاهرة حتمية، كما أنها ليست فكرة ثورية مفاجئة فهي قديمة قدم التواصل والتفاعل الإنساني لكن الجديد فيها هذه المرة أن حصانها هو التقنية الحديثة التي تمنح كل الثقافات المرنة فرصة أكبر للاستفادة من العولمة على عكس ما هي عليه الحال بين العولمة والثقافات المتصلبة التي شل حركتها التعصب والتسلط والأنانية والخرافات وغيرها من بنات التخلف.
أمر مؤسف حقا أنه حتى مجرد مصطلح العولمة في الفكر العربي يعاني من غموض شديد وضبابية معتمة، ويمكنني أن أعزو ذلك إلى أسباب متعددة، بالإضافة إلى رؤية البروفيسور، أركون منها:
1- أن عددا كبيرا من غير المتخصصين العرب تناولوا هذا المصطلح بالنقد والتفسير، وفوق هذا فقد كانت العاطفة تتحكم في انتقاداتهم وتفسيراتهم.
2- إخفاق كثير من الدارسين والكتَّاب العرب في التفريق بين مصطلح العولمة وغيره من المصطلحات، كالأمركة، والدولي، والعالمي، والإقليمي، والهيمنة العسكرية والاقتصادية.
3- التجارب والخبرات المريرة التي تختزنها ذاكرة الشعوب العربية عن بعض التصرفات الغربية غير العادلة مما جعل معظم العرب ينظرون إلى العولمة بوصفها تجليا استعماريا جديدا للحروب الصليبية.
4- سيطرة الشعور بالدونية على العقلية العربية.
5- تقاطع العولمة مع مصالح فئات متسلطة في الوطن العربي، الأمر الذي دفع بأقلام وأفواه مأجورة إلى تضليل الشعوب العربية.
6- جدة هذا المصطلح وصعوبة تعريفه تعريفا دقيقا متفق على صحته ربما حتى في بعض المجتمعات الغربية.
وفي هذا السياق يبدو أن مصطلح العالمية ومصطلح الأقلمة ومصطلح الأمركة من أكثر المصطلحات إثارة للالتباس مع العولمة لدى كثير من الباحثين والكتاب، وبخاصة في الفكر العربي، على الرغم من البون الشاسع بين معانيها ومعنى العولمة، فالعولمة «Globalization» تختلف عن مصطلح العالمية«Globalism» الذي يشير إلى طموحات أن تصبح قيم ما مشتركة أو متاحة للبشر كافة، وهي في الأصل ذات ارتباط قوي بجغرافية وزمان نشأتها وتظل تنسب إليهما حتى وإن أصبحت قيماً عالمية، والعولمة تختلف كذلك عن مصطلح الأقلمة «Regionalization» الذي يشير إلى تكتل إقليمي لتحقيق مصالح الدول التي يتألف منها ذلك الإقليم أو التكتل.
أما مصطلح الأمركة فيحسن بي تأجيل الحديث عنه إلى ما بعد تعريف العولمة.
لقد حظيت العولمة بعدد كبير من التعريفات ذات الأبعاد المتعددة والمختلفة، وهي في هذا الجانب كالظواهر الاجتماعية والنفسية من حيث الاختلاف بين التعريفات وعدم الاتفاق على تعريف واحد حتى داخل المنطلق أو التخصص الواحد.
ومن بين عشرات التعاريف التي تناولت العولمة وقع اختياري على اثنين من التعاريف أعدهما مثالين جيدين على تلك التعاريف، بالإضافة إلى تعريف ثالث مبتكر هو محاولة مني للإسهام بالرأي في توضيح مفهوم العولمة:
التعريف الأول: عرفها الأستاذ الدكتور معن خليل العمر من خلال بعض صفاتها فقال بأنها :« انتشار رأسمالية السوق الحرة إلى كل دولة في العالم».
التعريف الثاني: عرفها عالم الاجتماع البريطاني أنتوني جيدنز بأنها:« مرحلة جديدة من مراحل بروز وتطور الحداثة، تتكيف فيها العلاقات الاجتماعية على الصعيد العالمي، حيث يحدث تلاحم غير قابل للفصل بين داخل والخارج، ويتم فيها ربط المحلي والعالمي بروابط اقتصادية وثقافية وسياسية وإنسانية».
ومما يلاحظ على تعريف جيدنز أنه جاء مغلفا بمصطلح «عالمي» في حين أن العولمة شيء آخر تماما كما أوضحت قبل قليل، فلو أنه قال:«على صعيد العالم» لكان أصوب، وهذا ما قلل من ثقتي في هذا التعريف على النحو الذي ورد عليه.
التعريف الثالث: وهو تعريف مبتكر حاولت فيه الجمع بين صفات وخصائص ونتائج العولمة المادي منها والمجرد، ومن هذا المنطلق فالعولمة هي:«سعي الإنسان للنفاذ من قيود الزمان والمكان، واختراق الحواجز الطبيعية والمصطنعة، المادي منها والمجرد بواسطة التكنولوجيا والاتصالات والمعلومات، لجعل العالم سوقا اقتصادية حرة ومفتوحة خلال الأربع وعشرين ساعة، ونزع الهوية عن المنتجات التكنولوجية وجعلها رخيصة الثمن، وتحقيق أكبر قدر ممكن من التجانس الثقافي والإنساني بين بني البشر كافة».
أما عن العلاقة بين مصطلحي العولمة والأمركة فإن هناك سؤالين ملحين وعلى جانب كبير من الأهمية يقولان: هل العولمة والأمركة صنوان؟ وهل العولمة تصب في مصلحة الولايات المتحدة الأمريكية أكثر من أي دولة في هذا العالم؟.
يمكنني الإجابة على السؤال الأول ب «نعم» من حيث الفكر والمرتكزات الرأسمالية، لكن هذا الفكر وهذه المرتكزات ليست أمريكية فقط، لا بل إنها ليست أمريكية الجذور والنشأة الأولى ومن هذا المنطلق يمكن أن تنسب العولمة إلى فرنسا أو ألمانيا أو بريطانيا أو اليابان بالقدر نفسه الذي تنسب به إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وربما أكثر.
أما الإجابة على السؤال الثاني فتتضح من خلال القول إن العولمة كانت ستصب في مصلحة الولايات المتحدة الأمريكية جملة وتفصيلا لو لم يكن الاتحاد السوفيتي قد انهار، ذلك لأن الولايات المتحدة الأمريكية كانت تسعى إلى حشد أكبر عدد ممكن من الدول والأسواق، وأكبر كمية ممكنة من رؤوس الأموال لمواجهة التهديد الشيوعي، وقد كان كثير من الدول والشركات ينشدون ود الولايات المتحدة الأمريكية ويحتمون بمظلتها من ذلك العملاق الذي ساهمت السياسة والإعلام الأمريكي في جعله مرعبا، في حين أنه لم يكن سوى فزاعة من ورق، ومن المؤكد أن ذلك لم يكن بلا مقابل فقد كانوا جميعا يدورون في فلكها ويخدمون مصالحها في شتى المجالات، وهذه هي الأمركة في أوضح صورها.
|