تقابلت في نفسي صورتان لرمضان.. رمضان المزعج الثقيل الذي قدم يحمل الجوع والعطش، ترى الطعام أمامك يدك تصل إليه ونفسك تشتهيه ولكنك لا تستطيع أن تأكله، ويلهب الظمأ جوفك، والماء بين يديك ولكنك لا تقدر أن تشربه وتكون في أمتع نومة، فيأتي رمضان فيوقظك لتأكل من جوف الليل وأنت تؤثر لحظة منام على كل ما في الدنيا من طعام.
ورمضان الحلو الجميل الذي يقوم فيه الناس في هدءات الأسحار وسكنات الليل، حين يرق الأفق وتزهو النجوم ويصفو الكون، ويتجلى الله على الوجود يعرض كنوز فضله على الناس، ويفتح لهم باب رحمته، يقول جل وعلا: «ألا من مستغفر فأغفر له، الا من سائل فأعطيه، فيسأل الطالب، ويستغفر المذنب، فيعطي السائل ويغفر للتائب وتتصل القلوب بالله فتحس بلذة لا تعدل لذات الدنيا كلها ذرة واحدة منها، ثم يسمعون صوت المؤذن يمشي في جنبات الفضاء مشى الشفاء في الأجسام ينادي «الصلاة خير من النوم.. فيقومون إلى الصلاة يقفون بين يدي مصرف الأكوان يناجون الرحيم الرحمن فيسري الايمان في كل جنان، ويجري التسبيح على كل لسان، وتنزل الرحمة في كل مكان.
رمضان الذي ينيب فيه الناس إلى الله، ويؤمون بيوته، فتمتلئ المساجد بالمسلمين، متعبدين أو متعلمين لا متحدثين ولا نائمين، ففي كل بلد من بلاد الإسلام مساجد حفل بالعباد والعلماء ليس يخلو مسجد فيها من مصل أو ذاكر، ولا اسطوانة من تال أو واعظ ألقوا عن قلوبهم أحمال الاثم والمعصية، والغل والحسد، والشهوات والمطامع ودخلوا المساجد بقلوب صفت للعبادة، وسمت إلى الخير قطعوا أسبابهم من عالم الأرض ليصلوها بعالم السماء، تفرقوا في البلدان واجتمعوا في الإيمان، وجدتهم هذه القبلة التي إليها يتجهون، لا عبادة لها ولا ايماناً بها فما يعبد المؤمن إلا الله، وما الحجر الأسود إلا حجر لا يضر ولا ينفع وإنما هو رمز إلى أن المسلمين مهما ناءت بهم الديار وتباعدت الأقطار أمة واحدة، دائرة محيطها الأرض كلها، ومركزها الكعبة البيت الحرام.
رمضان التي تتجلى فيه أجمل صفحات الوجود وما كنا لنجتليها قبل رمضان لأن الحياة سفر في الزمان يحملنا قطار الأعمار فإذا قطع بنا أجمل مراحل الطريق، حيث يولد النور، وتصفو الدنيا، ويسكن الكون، مرحلة السفر، قطعها بنا ونحن نيام لا تنفتح عليها عيوننا ولا نبصر جمالها.
رمضان الذي تتحقق فيه معاني الانسانية وتكون المساواة بين الناس فلا يجوع واحد ويتخم الآخر، بل يشترك الناس كلهم في الجوع وفي الشبع غنيهم وفقيرهم.
ويغدو الناس كأنهم اخوة في أسرة واحدة ويمسكون جميعاً في لحظة واحدة.
فإذا فرغوا من طعامهم أموا المساجد فقاموا بين يدي ربهم وخالقهم صفاً واحداً متراصة أقدامهم ملتحمة أكتافهم وجباههم جميعاً على الأرض، فيعطيهم الله بهذه الذلة له عزة على الناس كلهم، ومن ذل لله أعزه الله، ومن كان لله عبداً جعله الله في الدنيا سيداً. هذه صورة رمضان الحلوة أفلا نستحلي معها مرارة الصورة الأخرى، إنه دواء فمن من العقلاء لا يحتمل ألم الدواء لما يرجوه بعده من لذة الشفاء.
|