رعاية اليتيم من أجلِّ الأعمال وأعظمها، وهو من أهم مظاهر صلاح المجتمع، وتماسكه ومن أقوى الأدلة على سلامة النفوس، ونزاهتها، وعلى وجود دوافع الخير القوية فيها.
لا شك أنَّ اليُتْم معاناةٌ فيها إحساس بالألم والانكسار، وأنَّ اليتيم يفقد في - ظل اليُتم - جانباً مهماً من جوانب الحياة العائلية المستقرة بسبب فقد ركنٍ من أركانها سواءٌ أكان ذلك الركن هو الأب أو الأم، وهذه الحالة من المعاناة والانكسار النفسي هي التي جعلت العناية باليتيم عملاً عظيماً يؤجر عليه الإنسان أجراً كبيراً يتناسب مع عظمته وقيمته.
«أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة» كلمة خرجت من مشكاة النبوَّة أكدت لنا أن رعاية اليتيم تستحق أن يحرص عليها الإنسان ويضطلع بها، فالأجر هنا ليس أجراً عادياً، بل هو غاية مهمة لكل مسلمٍ يتوق إلى جنة الخلد، فالرسول صلى الله عليه وسلم حينما قال «كهاتين» أشار باصبعيه الوسطى والسبَّابة، مؤكداً بهذه الإشارة أن مصاحبته في الجنة بسبب رعاية اليتيم وكفالته، والحرص عليه مصاحبةٌ قريبةٌ كقرب الوسطى من السبَّابة، ومعنى ذلك أنَّ الدَّرجات العُليا في الجنة أصبحت متحققة للإنسان المؤمن بربه إذا قام بكفالة يتيم أو رعايته، وهذا - كما نرى - طريق مختصر إلى الغاية العظمى التي نسعى إليها جميعاً.
إنَّ الذي قال هذه المقولة المباركة هو أصدق من نطق بالضاد، الذي لا ينطق عن الهوى - عليه الصلاة والسلام - وهو الذي ذاق طعم اليُتم وعرف معاناته وأدرك قيمة الرعاية والكفالة فيه، فقد لمس محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم معنى كفالة اليتيم بكفالة جدِّه عبدالمطلب، وعمه أبي طالب له، وعرف قيمة الرعاية والعطف والشفقة والرحمة لليتيم، والأثر الإيجابي الكبير الذي يتركه ذلك في نفوس الأيتام.
إنَّ الذي مرَّ بمعاناة اليُتْم - وقد مررتُ بها - هو الذي يقدِّر معنى الابتسامة الحانية، والكلمة الرقيقة، وهو الذي يعرف الأثر العميق لتلك اليد الحانية التي تمسح رأسه بعطف وحنان، ذلك لأن الأرواح هي التي تتخاطب، والقلوب هي التي تتجاوب، والمشاعر هي التي تحادثُ بلغة الرحمة والمودة والحنان.
ولا يمكن لقلب سليم، ونفس مؤمنة أن تمدَّ يد الإساءة إلى اليتيم، لأنَّ حالة اليتم من أَدَقِّ وأرَقِّ حالات الإحساس البشري، فإذا لم يشعر الإنسان بهذه الحالة الدقيقة الرقيقة من الإحساس، فإنَّه هنا قد فقد الإحساس، وأصبح أقسى من الصخرة الصمَّاء، وهنا يخرج من دائرة الإنسانية السليمة.
وهنا يأتي البُعْد البياني في قوله تعالى: {فّأّمَّا اليتيمّ فّلا تّقًهّرً}، حيث نهت الآية الكريمة عن «قهْر اليتيم»، ولو قلنا في غير القرآن، فلا تضرب أو تظلم أو غيرها من الألفاظ، لما أدَّى ذلك هذا المعنى بهذا البُعْد البياني البلاغي الذي تفيده كلمة «تقهر»، لأن أيَّ اعتداءٍ على اليتيم سواءٌ أكان حسياً أم معنوياً يتجاوز حدود الإساءة المعتادة، ليصبح قَهْراً، والقَهْر هو أقصى حالات الظلم والاعتداء وأشد حالات القسوة، وهنا ينسجم المعنى مع أهمية حالة اليتيم.
ولذلك كان العقاب لمن يأكل مال اليتيم بالباطل عقاباً صارماً عنيفاً لأنه عقابٌ على جُرْمٍ متجاوزٍ للحد، كما قال تعالى: { (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً }، هكذا تضع أمامنا بلاغة كتاب ربِّنا هذه الصورة ذات الآفاق والأبعاد النفسية والذهنية والشعورية، وما ذلك إلا لأن الأمر متعلِّق بالجور على اليتيم، والاعتداء على ماله، وهذا قَهْرٌ لا عقاب له يناسب مستواه إلا النار.
إنَّ رعاية اليتيم وكفالته في الإسلام، تُعدُّ من أفضل الأعمال وأزكاها عند الله عز وجلَّ، فما أجدرنا بترسيخ هذه المعاني في النفوس، وما أسعدنا بما نراه من مظاهر رعاية الأيتام في مجتمعاتنا المسلمة.
إشارة:
حَسْبُ اليتيم سعادة أن الذي
نشر الهدى في الأرض عاشَ يتيما
|
|