تصور نفسك على متن طائرة تشبه القرية المسوَّرة، فيها ما لا يتوقع من الأناسي والأشياء، وهي تسبح فوق هام السحب، والناس فيها يريحون ويسرحون، وفجأة لجَّ صوت الإنذار، مختلطاً بأصوات آلية، وضجيج بشري، وحركة غير عادية. ثم غمر ممراتها ومقاعدها دخان كثيف، كادت تحتجب معه الرؤية، وتبع ذلك اضطراب الناس، كلٌّ يحملق في شرود، والكلُّ يسأل في ذهول، ولا أحد مخول بالإجابة، ففوق كل ذي علم عليم، ولا مفر ولا وزر، فالجميع مرتهنون داخل صفائح من حديد، وسابحون على ارتفاع شاهق، والركاب فيهم الكبير والصغير، والرجل والمرأة، والصابر المحتسب والهلوع الجزوع، والمتفائل والمتشائم، والسليم والسقيم. ثم انظر كيف تكون وسط هذه الضوائق والضواغط، إنها ستكون حالة حرجة، تتبدل فيها الأوضاع غير الأوضاع والمشاعر، تبرز فيها الخيفة، ويختل التوازن، وتنشل الحركة، ويقف كل محشور في هذه الزنزانة الطائرة أمام الموت وجهاً لوجه.
ذلكم الموقف العصيب تتبدى فيه فرصة الشيطان المَرِيد، الذي يقعد لبني آدم كل مرصد، ويحتنكهم بالوسوسة والتسويل والتخويف والتخذيل والنزغ والاستدراج، مستدعياً صغار الأبناء وعظائم الذنوب، ليعقد الألسن عن ذكر الله، ولا يتيح إلا فرصة النظرات الذاهلة، وهو قد هدهد الغافلين عن معالي الأمور، وقال لكل منهم بطاعة: (نم عليك ليل طويل). إنها لحظات حرجة يقف فيها الزمن، ويضيق فيها المرء بكل شيء. وكل راكب تختنق أنفاسه، ويصبح ثوبه الفضفاض زنزانة تختلف داخله أضلاعه، ويحاول عبثاً أن يقدَّه من قُبُلٍ أو من دُبر، ليخرج النفس المحتبس في الأعماق، وكأني بكل راكب مغموساً في بحر لجي من الخوف والهلع، وهو ينظر إلى من حوله، ممن كان يأنس بهم، ويأنسون به، فيكونون من حوله كما الخشب المسندة. وهؤلاء الناس الذين يملؤون الطائرة حركة وحيوية يتحولون إلى أكداس من اللحوم المجمدة. منهم من يتلفت بذهول، ومن ينظر نظر المغشي عليه، ومن يلزم رأسه بيديه، وكأنه إناء زجاجي يتصدع، ومنهم المرأة التي تضم ولدها إلى صدرها، وكأن أحداً يغالبها على انتهابه.
في هذا الجو المشحون بالتوتر، تعيش غربة قاتلة، كأنك وحدك في مهب الريح، والأناسي الذين كنت من قبل لحظات تخوض معهم وتلعب، وتتحدث بكل ما يعن لك من الكلام، وتسمع منهم أحسن القصص، ما لبثوا أن غارت عيونهم، وتخشبت ألسنتهم، وتجمدت حركاتهم. إنها ساعة راجفة، يذهل فيها كل مخلوق عن كل ما حوله.
هكذا كنا، ونحن على متن طائرة (الإيرباص) المتجهة من (الرياض) إلى (الخرطوم) فجر يوم الأحد، الثالث والعشرين من شعبان. كنتُ لحظتها أغط في نوم عميق بعد الإفطار، واستعراض صحف الصباح. ولقد سمعت وأنا في سنة النوم أصوات إنذار وأصواتاً مدوية، غير أني لم أعرها أي اهتمام، لأنني بين اليقظة والمنام.
وما أن عمَّ الدخان أرجاء الطائرة، أحسست بضيق في التنفس، ففتحت عيني، فإذا به يغطي مقاعد الدرجة السياحية والأولى، ولم أزد على كلمة:-
- ماذا حدث، ما هذا الدخان الكثيف؟ ولم أسمع جواباً، وكأن المخولين بالإجابة أو المالكين لها نذروا للرحمن صوماً، فلن يكلموا اليوم إنسيّاً. ولو أنهم كذبوا للتطمين، كمن يكذب لإصلاح ذات البين، وقالوا: تسرب زيت خفيف على صفيح ساخن، نفذ مع التكييف، لما أصاب الركاب ما أصابهم.
التفت إلي الدكتور (عبدالرحمن العشماوي) القابع خلفي، وهو يطل من النافذة في خوف وترقب.
- قلت له: ما الذي حصل؟
- قال: المحرك الأيمن احترق وتوقف.
ولما لم يكن أحد منا يعرف درجة الخطورة في مثل هذه الحالة، ولمَّا لم يكن أحد يعرف ما حصل بالضبط، ولما لم يتطوع أحد لتهدئة الأنفس الوجلة، فقد ذهبت بنا الظنون أسوأ المذاهب، التهبت مشاعرنا، و اضطربت نظراتنا، وتوقعنا امتداد الحريق إلى الوقود، وامتداد التوقف إلى المحرك الثاني، لتكون الراجفة. ولمَّا أصبح الأمل معلقاً بالمحرك الثاني، فقد حدقنا به الأنظار، وتسمرنا حوله، وكأنه وحيد أمه المسجى على سرير المرض، وهو يغالب سكرات الموت، كان هو الأمل بعد الله.
في تلك الأثناء لم أفكر في شيء تفكيراً واعياً إلا بمساءلة نفسي: هل قرأت أورادي المعتادة؟ وتأكدت أنني تلوتها، بل كررتها بعد صلاة الفجر في (مطار الرياض).
وقلت في نفسي: هنا أرقب وعد الله الذي لا يخلف الميعاد، وبدأت النفس تهدأ، ولكنها تعود إلى الاضطراب، فهي بين الرجاء والخوف، ولاسيما أن الدخان نذير شؤم، ولا يمكن أن ينبعث من لا شيء، والطيار ومن معه في صمت مريب، ومن حقنا والحالة تلك أن نتوقع تدهور الأوضاع، وألا نستبعد التشظي في الفضاء.
كنت من قبل، يوم أن كنت حرَّاً على الأرض، أسأل نفسي عن مشاعر السجين المحكوم عليه بالإعدام، وهو يرقب تنفيذه كلما صَرَّ باب السجن، أو المريض الذي نفض الأطباء أيديهم منه، وتركوه بانتظار قدره، كيف تكون حالهم؟ وكيف يفكرون؟و كيف يرون الأشياء من حولهم؟ وهل يحسون بآلام الترقب، أم أنهم في حالة من الانفصام الشخصي؟ وما أكذب المتنبي حين قال لممدوحه: (تركتني أصحب الدنيا بلا أمل). فحين لا يكون أمل، يكون الإنسان خارج الحياة ودون الموت، فلا هو حي فيرجى، ولا هو ميت فينعى، وما من حي إلا ولديه بصيص من الأمل، وفي المثل: (دون سَلَّتِ السيفِ فرج).
وما أن تفرقت بنا الظنون، وتعددت الاحتمالات، تفاقمت التوقعات السيئة، وحاولت عبثاً أن أستعيد غفوتي، لأنسى ذلك الزمن المنيخ بكلكله المتجمد في لحظته الحرجة، فلم أستطع، لقد دخلت في يقظة لم أكن أتصورها من قبل، زُويت لي كل الأشياء، وتمثل لي الأبناء والبنات، والأهل والأحباب، والأحياء والأموات، وتغولت الغيلان في داخلي، ولم يبادر أحدٌ بالأذان، فالناطق الرسمي على الأرض، ولا بد لكل تصريح أن يغبَّ وأن يصاغ بطريقة تملصية. أحسست أنني أحاول الهروب إلى المجهول، أغمضت عيني، وجعلت أصابعي في أذني، واستغشيت وسادة، وغرست رأسي في أخرى، لقد كانتا من قبل رقيقتين ناعمتين، أما الآن فقد صارتا كما كيس من حسك السعدان، عدت إلى وضعي الطبيعي كما يطلب التسجيل، ربطت الحزام، وبدأت أتوسل إلى الله بما أعرف من صالح الأعمال، وتذكرت أصحاب الصخرة، وصاحب الحوت، ويعقوب وأيوب، وما جأروا به من الدعاء، وبدأت أردد: (أمَّن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء) وتساءلت كما المضطهدين: (متى نصر الله) فسمعت هاتفاً من الغيب: (ألا إن نصر الله قريب) نظرت إلى من حولي، فوجدتهم يغالبون الأحزان، وينظرون في وجوه بعضهم. الشيء الذي خفف بعض المعاناة أن المضيفين والمضيفات يركضون هنا وهناك، يبللون المناشف لوضعها على أنوف الركاب وأفواههم، يصطنعون التجلُّد، ويفتعلون رباطة الجأش، كي نرى أن ريب الدهر لا يزعزعهم، ولكن المنية إذا أنشبت أظفارها: (ألفيت كل تميمة لا تنفع)، وتداعيات الموقف جعلتهم لا يكلمون الناس إلا همساً، لقد خصيت الشفاه، فكلما انطلقت التساؤلات قيل لنا:- لا شيء، وكيف لا يكون شيء، والدخان يملأ الرحب، والمحرك متوقف. لم يكن بدٌّ من التسليم اليائس، أخذ كل منا مكانه، وساد الهدوء، وسلم الجميع لقضاء الله وقدره.
وكلما دخل الانسان في مرحلة ألفها، وسلَّم لها، لقد أيقنَّا أننا قاب قوسين أو أدنى من الموت. قلت في نفسي كيف تكون السعادة والفرحة حين تحط بنا الطائرة المنكوبة سالمين، واقتربنا من الأرض، وتراءت لنا معالم (الخرطوم)، ونظرنا الى النهرين وملتقاهما، هبطت الطائرة محفوفة بسيارات الاطفاء، واستقبلنا مندوب (وزارة الثقافة) وأعضاء الرابطة بالتهاني، وكأننا ولدنا في ساعة اللقاء، كانوا يحدثوننا عما يسمعون، وكنا نسألهم عما حدث، وكانوا يسألوننا، ولا يجد أحد من الطرفين جواباً شافياً، وكأنه محرم علينا أن نعرف ما يخصنا.
ولما كنت في السماء والمنايا مواثل، والطياران البشري والآلي يزجيان كل الإمكانيات على مقعد القيادة، كنت أقول: لو نجوت لما حزنت ما بقي من حياتي، وما هي إلا فرحة اللحظة، أعقبهما حمد وشكر، ثم أخذنا الأمل والنسيان، كما أخذنا الخوف والفزع من قبل، ولم يكن الحدث إلا ذكرى أليمة، نحدث بها من سأل ومن لم يسأل. وما أن بارحنا المطار حتى عادت الأمور الى مجاريها، أمل عريض، وتفكير منظم، وتطلع واسع، وغضب ورضى، ورجاء وخوف، وسبحان من قدر الأقدارا، ويسر كل مخلوق لما خلق له، وأعطى كل شيء خلقه ثم هدى، فالكون لا يعمره إلا حجب الحقائق، وإلا فحياة محفوفة بالآفات، مختومة بالوفاة، معاشة بالمنغصات، لا تساوي عند بارئها جناح بعوضة.
ومع الإغراق في المشاغل والاستعداد للمحاضرات والندوات واللقاءات الاذاعية والتلفازية والصحفية والجلسات الإخوانية وجدول الأعمال المليء بالفعاليات في (أسبوع الأدب الإسلامي) الذي تستضيفه (وزارة الثقافة السودانية)، فقد أصبح الحدث كما النوبات القلبية، يفجؤك بين الحين والآخر، فيشدك الى ساعة العسرة وتقطع الأسباب، ثم لا تلبث أن تفيق، وقد تفصدت عرقاً، لتتحسس نفسك، أأنت على الأرض أم على متن الريح؟ ولولا فضل الله علينا ورحمته ما نجا منا أحد، وما كنا نتوقع الحدث يمر بسلام، دون ارتطام بالأرض يخلطنا بأشيائنا، أو هزة عنيفة تترك السليم معاقاً، وكان بالإمكان تخطي المحنة لو أن أحداً من المسؤولين طمأن الركاب، وإذا لم يفعل، فقد تصورنا الأمر من الخطورة، بحيث لا يُغني فيه الصدق ولا الكذب.
بقي ان نتساءل عاتبين مستغربين: - لماذا لم نسمع كلمة تُطمئن أو اعتذاراً يرضي. من المعقول ان يصمت الجميع أثناء مغالبة الحدث، ومن المعقول أن يكذب المسؤول ليخفي بعض ما حصل، إن كان ثمة خطورة، أما أن نروَّعَ، ثم لا يتلقانا الطاقم ولو بوجه طلق، فإن في ذلك إخلالاً في العلاقات العامة، وإذ سلَّم الله، فإن من حق الراكب أن يعرف الأسباب والمسببات دون تفصيل، ودون تنصل من المسؤولية. لقد فتحت الأبواب، وعَدوْنا كقطيع من الغنم، ونفد كل بجلده، وكأن شيئا لم يكن، كنت أتوقع أن يتحدث قائد الطائرة أو مساعده أو كبير المضيفين عما تعرضت له الطائرة، وما بذله الطيار، وما نسبة الخطر. الحدث خطير، وآثاره واضحة، كتل من الدخان الخانق وأصوات إنذار مفزع، ولا شيء بعد ذلك. إن لزوم الصمت في حدث كهذا يعني اللامبالاة، فالراكب بكل ما ينطوي عليه من مشاعر يتحول عند إخواننا في الخطوط الى شيء من الأشياء، شأنه شأن متاعه الذي عُهد به الى هذه الآلة، ليكون حمله وفصاله في ساعة أو ساعتين.
لقد لقينا في سفرنا هذا هلكة ونصباً، وكان أقل ما يجب أن يقول المعنيون - (نأسف لما حصل، وهو خارج عن إرادة الجميع، ومتوقع في كل رحلة، ومن فضل الله أن تغلبنا عليه، ولم يضار أحد). لقد ترك الحادث آلاماً نفسية، وأصبحنا نتخوف، وحق لنا أن نتخوف، فما من رحلة إلا ولها مشكلة، فما أن عدت في العاشرة صباحاً من يوم الجمعة الثامن والعشرين من شعبان الى (جدة) وكنت على موعد مع أحد الأقارب لترتيب جلسة بحرية، وأكلة بحرية، ولقاء حميم نقضيه في منتجعات (جدة) الجميلة، استعداداً للمواصلة الى (القصيم) بعد سبع ساعات، إلا وكان الحدث الآخر، وتكون (الخطوط السعودية) السبب الرئيس في إفشال كل شيء، كان الداعي على متن الطائرة المتوقع عودتها من (اسطنبول) وشاء الله أن يحبسهم خرابها، لتفوت الفرصة، وأقضي الساعات السبع متسكعاً وحدي في ممرات المطار، وإمعاناً في الإيذاء، تعلن الخطوط عن تأخير رحلة (القصيم) مساء ذلك اليوم ساعة أو بعض ساعة، وكل ذلك يحصل دون أن يتمعر وجه، أو يخاف مسؤول، فما من منافس يحملهم على تلافي التقصير، ولا من مُسائل يحاسبهم على الخطأ أو التأخير، وكأن الخطوط المدللة ترقب (ستة مليارات) أخرى متخطية كل الأولويات الإنفاقية لشراء أسطول آخر، كي تفك به الاختناق المزعوم، وتتطلع الى تعيين أرتال من الموظفين، ليضربوا الرقم القياسي في البطالة المقنعة، التي شكلت العقبة الأولى في سبيل الخصخصة. أحسب أنه من الضروري ايقاف المسؤول للمحاسبة والمساءلة، أو قطع ألسنة المواطنين الذين ما فتئوا يتحدثون بتندر وسخرية عن الأعطال والتعطيل، مع غزارة في الامكانات وسوء في التوزيع، طائرات جاثمة لا تباع ولا تستعمل، وآلاف من الموظفين الكتبة يأكلون ما كان، ويضيقون في المكان، وقلة في المهندسين الذين يسلقون الصيانة سلق البيض، وشح في الطيارين. ومع هذه الغضبة المضرية لا ننكر الفضل لذويه، ولو شئنا الثناء على الخطوط لوجدنا ايجابيات كثيرة، ونكون قد صدقنا في الثناء، ولم نكذب في الذم، وعلى معالي المدير العام بما عهد فيه، وما عهد إليه، وما عرف عنه، ألاَّ تلهيه القصائد التغلبية، فكم تحت السواهي من دواهي.
|