مفهوم التنمية الإنسانية أو البشرية اكتسب رواجه بالتبعية لمفهوم المجتمع المدني كنتيجة لتقليل الاعتماد على السياسي المباشر أو الاقتصادي (الربحي) المباشر في عمليات الإصلاح الشامل، متضمناً أبعاداً أكثر عمقاً كالقدرات البشرية المجتمعية لكل أمة وتطوير المهارات المعرفية وطريقة استخدام هذه القدرات. وهذه المقالة بجزأيها ستستقرئ تقرير التنمية الإنسانية العربية لعام 2003م الصادر من برنامج الأمم المتحدة الإنمائي والصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي. وينبغي الاستدراك بأن هذا التقرير كمثل سابقه في العام الماضي حرره ثلة من المفكرين العرب والعربيات.. رغم أن البعض يرى أن التقرير سياسي (عاطفي) وليس مهنياً أو علمياً محايداً.. وأن كُتّابه من الناشطين في مجال حقوق الإنسان وليسوا من الباحثين المتخصصين «التكنوقراط»، ومن ثم فهم منحازون لقيم غير واقعية.
يطرح التقرير خطورة زعم بعض الأنظمة العربية بأنه إذا كانت الدول العريقة بالديمقراطية - كأمريكا - قد أخذت تتنكر لحقوق الإنسان، فلا ضير أن تحذو حذوها الدول التي ما زالت تخطو خطواتها الأولى في طريق الإصلاح، ويحذر التقرير من أن النزوع إلى المبالغة في الحس الأمني وتأثير التحديات الخارجية قد يدعو للتنصل من الإصلاح الداخلي والتهاون في واجب التطوير الذاتي العربي.. مما يشجع على مصادرة الحريات وحقوق الإنسان.
إن العالم العربي - كما يرى التقرير - يعتبر الحرب الأمريكية على المنطقة العربية محاولة لإعادة تشكيل المنطقة لتحقيق أهدافها، ولمواجهة هذه التحديات يطمح إلى حفز رؤية استراتيجية تبلورها النخب العربية تتوخى إعادة تشكيل المنطقة من الداخل، فالإصلاح من الداخل المتأسس على نقد رصين للذات، هو البديل الصحيح لمواجهة المخاطر، ويدين التقرير مخاطر الاحتلال الإسرائيلي وبشاعته.. ولكنه ينبه إلى عدم اتخاذها ذريعة للإبطاء في الإصلاح السياسي والاقتصادي في الدول العربية بدعوى المحافظة على الأمن القومي لمواجهة العدوان الخارجي الرهيب التسلح.
ورغم التشاؤم الشديد الذي أطلقه التقرير السابق، فإن التقرير الحالي يُثني على التقدم الذي أحرزته بعض الدول العربية في مجال وسائل الاتصال وتقنية المعلومات وانتشار التعامل مع الإنترنت، ولكنه يشير إلى تخلف مريع في المنطقة العربية في هذا المجال، حيث يتوفر أقل من 18 حاسوباً لكل 1000 نسمة في البلدان العربية مقابل ما يربو على 78 حاسوباً كمعدل عالمي! ولكن المقارنة المؤسفة لواقعنا العربي تأتي في رواج الكتب، حيث يعد الكتاب الذي يباع منه 5 آلاف نسخة من الكتب الأكثر رواجاً بين 270 مليون عربي! وحيث أنتجت البلدان العربية مجتمعة 5600 كتاب في 1991م مقابل 102 ألف في أمريكا الشمالية و42 ألفاً في أمريكا اللاتينية! وحسب كتاب اليونسكو 1991م تعد مناطق الدول العربية هي المناطق الأقل إنتاجاً للمطبوعات بين مناطق العالم قاطبة بعد أفريقيا! فما هي أسباب تدني أهمية الكتاب في العالم العربي بعد الأمية؟
أولاً - يقول التقرير - معاملة الكتاب كسلعة محظورة تخضع للرقابة الصارمة وللإجراءات البيروقراطية التي تثقل كاهل الناشرين. يلي ذلك ضعف القوى الشرائية للقارئ العربي. كما أنه لا تتوافر بيانات إحصائية عن الكتب التي يفضلها القراء العرب!
وللمقارنة يرى التقرير أن سر تقدم «النمور الآسيوية» يكمن في التركيز على التعليم والتربية، ويوضح بأن النمور الآسيوية أفلحت في تضييق الفجوة التي تفصلها عن الدول المتقدمة، ويطرح مثلاً بأن نسبة دخل الفرد من الناتج الإجمالي كمقارنة مع الدول العالية الدخل في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية بلغ 18% للدول الآسيوية مقارنة مع 9% للدول العربية في عام 1970م، وقد ارتفعت إلى 52% في الدول الآسيوية لعام 2001م في حين انخفضت إلى 7% في الدول العربية!
ويمضي التقرير بأن قياس أوضاع المعرفة في البلدان العربية يفتقر إلى الدقة وهذا بحد ذاته مؤشر على أن التربية ذاتها تمر في أزمة حادة. ولكن التقرير لا يستمر بتشاؤمه، بل يطرح تفاؤلاً يقوم على إمكانية التطوير عبر الإرادة السياسية والقدرة على حشد الموارد وتعبئتها وتركيز الجهود خدمة لأغراض نهضة مجتمعية وطنية مع إمكانية الإفادة من دول نامية أخرى لا تتفوق على الدول العربية في مؤشراتها المعرفية التقليدية.
اللغة الأم مفتاح للنهضة الثقافية! والباحثون العرب لم يولوا القدر الكافي لفهم طبيعة العلاقة بين المنظومة اللغوية العربية من جهة وطريقة التفكير من جهة أخرى.. فمن الضروري أن يتعلم الشباب العرب التفكير النقدي بلغتهم الأم. وتعاني ترجمة الأعمال الأجنبية من شح لا يواكب التجدد المعرفي التراكمي المتسارع في العالم. ومع سطوة الاتصال الجماهيري وهيمنة القدرة الاقتصادية يخشى على اللغة العربية من الانقراض!
ويرى التقرير ضرورة الشروع بإصلاح لغوي شامل خاصة أن اللغة الفصحى أصبحت تستخدم للدلالة على بلاغة المتكلم لا كوسيلة للتواصل الحقيقي بين الناس! فلا بد من الانتقال بالدراسات اللغوية بالمنهجية التقليدية (النحو والصرف) إلى دراسة منظومة اللغة العربية بطريقة أكثر عمقاً وشمولاً يتم التركيز فيها على عناصر اللغة الداخلية والمتداخلة والعلاقات التي تربطها بالمنظومات المجتمعية الأخرى، وتحليل البنية المفهومية للكلمات والمصطلحات العربية. وقد أثبتت اللغة العربية عبر التاريخ قدرتها الفائقة على حمل أرقى المعارف الإنسانية، وهي بذلك قادرة على مواجهة تحديات الراهن والمستقبل.. ولكن لابد من القيام بنشاط بحثي ومعلوماتي جاد في هذا المجال.. التقرير طويل.. ولا تزال في الجعبة بقية نكملها في الجزء الثاني بإذنه تعالى.
|