كنت أردد قول الله تعالى: { )شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ) }، وبينما كنت أمتع نفسي بتكرار قراءتها، وأقف على ما فيها من بيان يملك جوانب النفس، وعذوبة تسعد القلب، عرض أمامي خيالي لوحةً متحركة، صوَّر لي فيها «رمضان» جالساً تحت دوحةٍ خضراء، على بساطٍ أخضر من الأعشاب، محاطٍ بخطوطٍ بديعة من الأزهار ذات الأشكال والألوان، ممسكاً بيده قلماً يفوح من حبره شذا الصيام الجميل، وبين يديه، ورقةٌ ورديَّة اللون، متوسطة الحجم، وقد وضعها «رمضان» على صندوقٍ زجاجي مزخرف، وبدأ يكتب فيها حروفاً لم أكن قادراً - في بداية الأمر - على قراءتها، فقد كان يكتبها وهالةٌ من النور تحيط بكل حرفٍ يخطُّه قلمه، وأشذاءٌ عطرة تنبعث من كل كلمة يكتبها، تكاد تسلبني بجمالها صوابي، وتفقدني قدرتي على التركيز.
لقد لفت نظري - حينما نظرت بعين خيالي - أنَّ وجه رمضان المشرق الوسيم كان مشوباً بمسحةٍ من التضايق والحزن لا تخفى على عين المتأمل.
حاولت ملاحقة قلمه لقراءة ما يكتب فلم أستطع، وما هي إلا لحظات قصيرات، حتى رفع إليَّ عينيه الجميلتين، وابتسم قائلاً: سأعطيك هذه الورقة فقد كتبتها لكم أيها الناس، لكل مسلمٍ يعرف حقيقتي، ومعناي، وقيمتي، كتبتها لكم حروفاً مملوءة بالحب والحنان، ممزوجة بالحزن والأسى، مقرونة بالعتاب، والخوف عليكم من حالةٍ أراكم تعيشونها تثير في نفسي عليكم شفقةً تزعزع فيها معالم السعادة والهناء.
ومدَّ إليَّ رمضان بتلك الورقة الوردية الجميلة، فإذا به قد كتب فيها الرسالة التالية:
إلى كل مسلمٍ ومسلمةٍ يؤمنون بالله رباً، وبمحمد رسولاً، وبالقرآن دوستوراً، وبالإسلام ديناً، يعرفون الله حقَّ المعرفة، ويفهمون معنى تعاليم دينهم فهماً صحيحاً، إلى كلِّ من يستقبلني استقبالاً حافلاً بالاستعداد للعبادة والطاعة، والذكر والقراءة، والصدقة والاعتكاف، وإلى كل من يستقبلني بأصناف المأكولات والمشروبات، ولذائذ الأطعمة ذات الألوان المختلفة، والأذواق المتعددة، وإلى كل من يستقبلني بكلمات طيباتٍ في برامج إذاعية أو تلفازية، يقدِّرني فيها بقدري، ويعرف مكانتي، ويؤمن بخصوصيتي، وإلى كل من يستقبلني بكلماتٍ تائهاتٍ في برامج إذاعية أو تلفازية، يتعمد فيها الإساءة إليَّ وإيذائي، ويخرجني من دائرتي المضيئة بأنوار العبادة والإيمان، إلى دوائرَ مظلمةٍ من العبارات الساخرة، والمواقف التي تكاد تصيبني باليأس من أمةٍ أراها ضائعةً مهزومةً في هذا العصر الذي يموج بأهله موجاً، ويضطرب بهم اضطراباً.
إليكم جميعا أوجه رسالتي الحزينة، وأعبرِّ لكم عن حبي لكم، وحزني عليكم، وغضبي منكم، واستنكر على كثيرٍ منكم إساءة استقبالي، وسوء التصرف في مخاطبتي، مع أنني ضيفٌ أعود إليكم عاماً بعد عام محملاً بهدايا ثمينة، تستحق منكم فائق العناية والتقدير، نعم أنا الضيف المحبّ الكريم، فكيف تستقبلونني بما يسوؤني أين كرم الضيافة؟ أين احترام الضيف، أين تقدير مكانته، ومعرفة قيمته؟، أين الاحتفاء به الذي هو من شيم الكرماء؟ لقد وقفت أمام لوحةٍ في مكانٍ ما من أرضكم كتب عليها: «في رمضان على الكوميديا نلتقي»، ولأنني لا أعرف لغة أجنبية سوى لغة القرآن الذي شرفني الله بنزوله في ليلة القدر التي أعتزُّ بأنها إحدى ليالي المباركات، فقد وقفت حائراً أمام هذه اللوحة، ولكنَّ صورةً تصاحبها لمجموعة من النساء غير المحتشمات، والرجال ذوي العقول «000» أوضحت لي معنى «الكوميديا»، وقلت في نفسي، يا للهول، أيليق بالمسلمين أن يستقبلوني بهذا الغثاء؟.
يا أبناء الإسلام: إن لي عليكم حقاً عظيماً، فأنا ضيفكم، ومثلكم يعرف معنى إكرام الضيف، أنا ضيفكم الذي أجيء إليكم مبشراً بأبواب الجنة التي تفتح، وبأبواب النار التي تغلق، وبالشياطين التي تصفد، وبهدايا الرحمة والمغفرة والعتق من النار، أجيء إليكم بالصيام، والصلاة، والصدقة، وتلاوة القرآن العظيم، وهي هدايا لا تقدَّر بثمن فهي فوق كل ثمن، وإنَّ هديةً واحدةً منها، تساوي دنياكم هذه وما عليها.
يا للهول، كيف تستقبلونني بالسخرية والاستهزاء، والتهريج والضحك الذي يميت القلوب؟ كيف تستقبلونني بأعمالٍ إعلاميةٍ يختلط فيها الرجال بالنساء، وتمتلئ بعبارات ممسوخة، لا تناسب سموَّ كلماتي، ولا تتفق مع عباراتي المستمدة من قرآنٍ وسنةٍ، ودعاءٍ وذكر.
أقسم لكم أنني أكاد أفقد الأمل فيكم، لولا هذه التلاوات المباركات تشدو بها مكبرات الصوت في بيوت الله، ولولا هذه الصفوف التي تقف كالبنيان المرصوص في ساحات البيت الحرام، والمسجد النبوي، والمسجد الأقصى، وبقية المساجد في أنحاء عالمكم العجيب.
أنا «رمضان»، أما يكفي بعض من يسرح منكم ويمرح بعيداً عن ساحاتي المزهرة، أن يتأمل حروف هذه الكلمة «رمضان»، إنَّ أملي فيكم كبير، وهذه يدي أمدُّها إليكم بالحب والصفاء والنقاء، فصافحوني بمثلها أيها الأحباب.
أيها القراء الكرام..
هذه هي اللوحة التي عرضها خيالي، وهذه هي رسالة رمضان التي حملتها إليكم، بكل ما فيها من «الحب، والحزن، والعتاب» فما رأيكم؟
إشارة
غصنٌ دَنا، وثماره أدنى
يا طيب مَنْ يجني وما يُجْنَى |
|