* تلقت «300» جمعية خيرية في عموم البلاد أوائل شهر رمضان هذا؛ «عشرة ملايين» ريال عداً ونقداً، سلمها لها الأمير «سلمان بن عبدالعزيز» أمير منطقة الرياض؛ بعد أن تسلمها من الأمير «الوليد بن طلال»؛ تبرعاً منه لدعم العمل الخيري في المملكة.
* هذا ما طالعتنا به صحافتنا صبيحة يوم الأربعاء الفارط؛ وهو تبرع سخي وكبير؛ يأتي من متبرع واحد هو الأمير «الوليد بن طلال»؛ الذي يستحق الشكر والثناء على «غيرته الوطنية؛ وخيريته السخية»؛ وهو كذلك؛ جزء يسير مما تتلقاه الجمعيات الخيرية «السعودية»..! من آلاف المتبرعين والمتصدقين والمزكين؛ من كافة القادرين والموسرين، الطامعين في الأجر والثواب من رب العالمين؛ وذلك على مدار العام كله؛ وليس في شهر رمضان فحسب.
* كنت أقرأ في قوائم الجمعيات المستفيدة من هذا التبرع الكبير؛ وفي ذهني أكثر من مسألة حول العمل الخيري في المملكة.
* أولى هذه المسائل؛ ما يثيره بعض الكتاب العرب من تساؤلات؛ تنشر في صحفهم وإصداراتهم من وقت لآخر؛ حول حجم رأس المال الخاص في المملكة؛ وما يعطى لرجال الأعمال عموماً؛ من دعم وتشجيع واعفاءات من قبل الدولة؛ قلّ نظيرها في العالم؛ وبالتالي؛ فهؤلاء الكتاب يتساءلون - والحق معهم - عن دور هذا المال في العمل المؤسساتي؛ الذي يخدم المجتمع بشكل أفضل ومباشر.
* وثانية هذه المسائل؛ هو حظ «الوطن والمواطن» - إن صح تعبيري - من الدعم الخيري الذي يتدفق من جيوب الموسرين إلى صناديق الجمعيات الخيرية؛ ما قدره وما مداه..؟
* ثم ثالثتها؛ هي بروز النشاط الخيري خارج الحدود؛ وبالتالي خفوته داخل الحدود؟! وما هكذا كان يفعل الجدود؟!! وهذه المسألة لا تثير عندي؛ الشجن الوطني الذي أنافح دونه بشرف فقط؛ ولكنها تنقلنا إلى جملة من المحاذير؛ التي طالما تكلمنا عليها منذ سنوات؛ ثم ثبت «عندهم»؛ بعد لأي وتلكؤ؛ أن جملة «افعل خيراً؛ وأرمه في البحر»؛ هي جملة غير صحيحة في كل الأحوال؛ فكثيراً ما هاج هذا البحر الذي نحسن إليه بسخاء؛ فصفعنا بموجه وهوجه؛ ورمانا بقذاه وعوجه..! حتى صح لنا أن نقول: أعمل خيراً؛ ولا ترمه في البحر..!
* هذا رمضان المبارك؛ ومن بركاته وهي كثيرة؛ هذا التبرع الذي رأينا.. وفي شهر رمضان من العام المنصرم؛ قام سمو ولي العهد الأمير «عبدالله بن عبدالعزيز»؛ بزيارة مفاجئة إلى حي شعبي «فقير» في العاصمة الرياض، ورأينا «فقط»؛ كإعلاميين؛ من خلال هذه الزيارة المهمة؛ كيف يعيش بعض مواطنينا؛ في صنادق وعشش وثياب رثة؛ وجاء صوت الأمير الجليل؛ «عبدالله بن عبدالعزيز» من هذا الموقع؛ حاثاً كافة المواطنين؛ أغنياء ومتوسطي حال؛ على التكافل والتكاتف، لدعم فقراء الوطن.
* وفي رمضان الذي مضى كذلك؛ وبعيد زيارة سمو ولي العهد لهذا الحي الفقير في العاصمة الرياض؛ ومن على بعد كيل واحد من عشرات الأسر الفقيرة؛ ومئات الأرامل والأيتام والعجزة؛ تعلن «جمعية خيرية سعودية»؛ أنها أنفقت - هي وحدها - ما قيمته «130» مليون ريال؛ على أنشطة خيرية في آخر العالم..! هناك.. بعيداً عن الوطن وعن عاصمته الرياض!!
* هذه كلها في الحقيقة؛ من تلك التداعيات التي تذكرنا على الدوام؛ بأنه يوجد مئات من ملايين الريالات؛ تدار في صناديق خيرية؛ ما زالت حساباتها سرية؛ ولا أدري ما السر والحكمة في هذه السرية..؟! لأن الجمعيات؛ سواء كانت خيرية أو نفعية؛ فهي بالتالي مؤسسات مدنية - أو هكذا ينبغي أن تكون - فيجب إذن؛ أن تدار من خلال مجالس منتخبة؛ وأن تمارس أعمالها في النور، وفي شفافية لا غبار عليها البتة، وأن تكون لها ميزانيات سنوية معلنة؛ تحت اشراف إدارات محاسبية قانونية كفؤة؛ معترف بها من قبل الدولة.
* ليس هذا فحسب؛ فلست هنا بصدد التذكير بما هو متوجب على الجمعيات الخيرية؛ تجاه أبناء وبنات الوطن، في المدن والقرى والأرياف، ولا التذكير بأولوية الأقربين؛ وأحقيتهم في المعروف، ولا شيئاً من ذلك؛ لأني طالما تكلمت في هذا كثيراً، ولكني أتعجب حقيقة؛ من تجربة هي الأكبر والأضخم في المنطقة، ومع ذلك ظلت طيلة سنوات عمرها؛ تدار بعقلية الصدقة لمن يدق الباب..! وبقياس «الغذاء والكساء»..! وكأن الخيرية لا تنصرف في غير هذا المُنْصَرف، فلم نحاول تطوير هذه التجربة؛ أو نحدثها؛ فنصل بها إلى مستوى من العمل المؤسساتي الكبير؛ الذي يقدم خدمات إنسانية فعلية في شكل مشاريع مرئية؛ تستمر مع المستفيد المحتاج؛ من يوم ولادته حتى يوم وفاته، فلا تصله في رمضان؛ ثم تنقطع عنه بعد رمضان، ولا تتوفر له حال جوعه أو عريه، ثم تتلاشى إذا شبع واكتسى، لأن الإنسان؛ هو كائن حي متطور؛ لا تتوقف حاجاته عند طعام أو شراب أو كساء، بل هو يحتاج أكثر؛ إلى السكن الكريم؛ والتعليم المجدي، والدواء، والعلاج، والترفيه.. وحتى يومنا هذا؛ لم نر جمعية سعودية واحدة على الأقل؛ بنت قرى سكنية للفقراء في بلدانهم، أو حفرت لهم الآبار؛ فروت عطشهم، ولا فتحت لهم المدارس والمعاهد، ولا وفرت لهم النور لتبديد الديجور؛ أو شقت الطرق، ولا شيدت مستشفى أو مصحاً للعلاج والدواء المجاني، ولا فتحت جامعة خيرية لأبناء الفقراء؛ الذين لا يجدون مقاعد لهم في الجامعات؛ ثم لا يستطيعون دفع النفقات، ولا جمعية تبنت فكرة التدريب المهني؛ لأبناء وبنات الأسر الفقيرة؛ فأهلتهم لحياة كريمة.
* إن مثل هذه المشاريع الحيوية المهمة؛ التي تخدم المجتمعات؛ تتبناها جمعيات خيرية سعودية - كما رأينا وشاهدنا - ولكن.. في مجتمعات خارج المملكة؛ إلا على التراب الوطني؛ فلا وجود لها..! هنا تبدو المفارقة عجيبة وغريبة..! هل هناك خلل ما..؟ أين هو يا ترى..؟ هل هو النظام الذي يحكم عمل هذه الجمعيات؛ أم في إداراتها ومجالسها؛ أم في أمزجة وأهواء الأشخاص الذين يتولون أمرها..؟!
* مثل هذه الأمور المهمة في حياة الأمة؛ ينبغي أن لا تغيب عن عدة أطراف في هذه البلاد؛ الغنية بنعم كثيرة، ومن هذه النعم؛ حب الخير المتأصل في أبنائها.. من هذه الأطراف: أجهزة الدولة المعنية بالمتابعة والمراقبة والمحاسبة، ومنها كذلك؛ أجهزة الإعلام كافة؛ التي ينبغي أن يكون لها دور وحضور في الوسط الاجتماعي؛ لمتابعة حاجاته لخيرية وطنه؛ ولرصد استفادته أو عدم استفادته منها، إلا أن أهم هذه الأطراف؛ هم الموسرون؛ الذين يعطون تبرعاتهم وصدقاتهم وزكواتهم للجمعيات الخيرية، هؤلاء.. يجب أن يكونوا متيقنين جيداً؛ من وصول خيرياتهم إلى أهدافها المتوخاة من قبلهم هم، وأن يتابعوا بيقظة وحرص؛ سيرها حتى المصب الأخير، وذلك حتى لا تذهب إلى أيدي عابثين بأمن المملكة؛ أو مستهترين بسمعتها في الداخل والخارج.
* ليس من الحكمة؛ تحميل الذمم بالنيابة؛ هذه مغامرة كبيرة، والحرص في مثل هذه الأمور؛ من الواجبات، فالثقة في كل الناس؛ تضر ببعض الناس، وكما قالوا: فإن سوء الظن من حسن الفطن، ولعل التجارب التي مرت بنا؛ أهدتنا درساً كافياً؛ لكي ننتقل بالعمل الخيري؛ من «مرحلة الإخفاق»؛ إلى «مرحلة الآفاق»، وآفاق المستقبل المشرق بإذن الله؛ تتطلب منا جميعاً؛ أن نعجل بتحويل «الخيرية السعودية»؛ إلى خدمات انسانية مؤسساتية؛ بدلاً من التبرعات المالية والعينية؛ التي هي عرضة في بعض أوجهها؛ لما يجعل منها صدقات ضارة؛ بدل أن تكون نافعة.
* مازلت مندهشاً حقاً؛ كيف تصل الجرأة بجمعيات خيرية هنا أو هناك؛ إلى التصرف في أموال المحسنين والمتبرعين؛ على نحو غير «مرضي» إطلاقاً، فتخصص قسماً كبيراً منها؛ للصرف على سفر وتنقل عناصر منها، وتمويل نشاطات كثيرة في أكثر من «30» بلداً خارج الحدود..! وكذلك تمويل مواقع الكترونية، وندوات ومحاضرات، وطباعة كتيبات، وتسجيل أشرطة؛ وكثير من هذه الكتيبات والأشرطة؛ لا يحمل سوى رؤى ومفاهيم خاصة بأصحابها، همهم الأول والأخير، حمل الناس عليها؛ فإن لم يكن ما أرادوا؛ سعوا إلى حملهم عليها بالقوة؛ كما رأينا في الحوادث الأخيرة.
* ماذا نريد لأنفسنا نحن؛ من «العمل الخيري» في بلادنا..؟!
* أسأل.. أجيبوني.
fax:027361552
|