لم أكد أفرغ من قراءة بيت المتنبي :
أفاضل الناس أغراضٌ لذا الزمن
يخلو من الهم أخلاهم من الفطنِ
|
لم أكد أفرغ منه إلا وقلت : إن قدر بعض الأجيال أن تعيش في زمن، أو مجتمع تتكاثر تقلباته، وتتسارع تغيراته، وتتلاحق تطوراته، فضلاً عن شعور داخل هذه الأجيال بتهديد ثوابتها، وزعزعة قيمها، والنيل من مبادئها . وليس من شك أن الناس ستختلف مواقفهم وتفاعلهم، وردود أفعالهم تجاه مثل هذه الأغراض، باختلاف مشاربهم الثقافية، وحجم مسؤولياتهم الاجتماعية والقيادية.
ومع ذلك يبقى النائي من الخليقة عن شؤون الآخرين ونوازعهم، أنعم بالاً، وأكثر اطمئناناً بطبيعة الحال، ولعل هذا ما ينشده المتنبي ، حين احتمل من هم الآخرين ما احتمل.
وكثيرة تلك المواقف والمحاك التي تمر بالإنسان في طور حياته، قد يراها هو محرجة أحياناً، ويعدها غيره مخجلة حيناً آخر، وكل ذلك بحسب البيئة وعوامل التكوين، ذات الأبعاد المختلفة في نشأة الإنسان.
من الناس من يمرّ هذه المواقف بلا تأمل أو تدبر، وهناك من يضعها تحت دائرة النقاش، والجدل، والحوار، والتحليل ، والتعليل . والتجاوب معها أو الانفعال متغيرٌ قدر سلبية الفرد، أو إيجابيته مع مجتمعه، وهي مواقف بلا ريب جزء من اختباره ، تكشف مدى تعامله معها، وحسن تبويبه لها. هل سيوظفها وفق مشيئته وهواه ، أويخضعها لرأي ٍ ومصلحة اجتماعية ووطنية ليس من الضرورة أن يتفق أو يقتنع بمنطلقاتها، وأبعاد أهدافها.
أحد هذه المواقف التي جرتني للحديث عنها ، ودفعتني للكتابة فيها موقف له طابع الخصوصية الاجتماعية، لكني لم أجد عنه منزعاً أو ملاذاً، إذ يتصل بابني الأكبر الذي سلمته - من غير اختيار - إلى أحد المحاضن التمهيدية مطلع هذا العام. وشأنه شأن غيره من سائر النشء، قامت المرأة على استكمال تربيته وتعليمه، وتنشئته وتقويمه، وتهيئته وتدريبه، ولكنه - أثناء فترة التعلم - لم يسلم من لمز شقيقاته اللاتي يكبرنه في السن، بطابعٍ يغلب عليه الهزل أحياناً ، والجدّ تارةً أخرى ، ولمست أثر ذلك التهكم عليه من خلال تقاسيم وجهه، ومن منطقه وتعبيره، ذلك أنهنّ فيما يبدو ألحن حجة، وأقوى عارضة. وأكثر قدرة على التأثير. ولم يستمرئ الطفل البيئة النسوية بادئ الأمر،لأسباب أومأت إليها، جلها تتصل ببيئته الصغيرة التي رسخت الفصل بين الجنسين في أمور التربية، لكنه ما لبث أن تكيف هو وغيره ممن كان يحمل موروثاً قوي التأثير في ذاته، شديد التأثير في شخصيته، وإذا به ينقاد كرهاً أو طواعيةً لمتطلبات مربيته ومعلمته، ورغائب أهله، آلفاً ما كان ينفر منه، منسجماً كل الانسجام مع محيطه، مقدماً تنازلاته الواحد تلو الآخر.
أمام هذا الموقف ليس من الغريب أن يقف الإنسان حائراً بين عادات وتقاليد ألفها في نشأته وشبّ عليها، وربما أراد أن يسحبها على غيره، صارفاً النظر عن تغيرات الزمان والمكان، وبين واقعٍ يفرض ذلك عليه، ويدعوه للتعايش معه، وتناسي ما سواه، تحسباً لما تضمره الأيام.
لكن يبدو أن شعورنا بالإخفاق كرجال في هذا الزمن، وعلى أكثر من صعيد، جعلنا نلتفت إلى المرأة المنطلقة، ونحاول أن نحجم أدوارها، ونشكك في قدراتها، ونقلل من نفوذها وسلطتها، وتمردها وانفلاتها ، كما نزعم، لتقف عند الحدود التي رسمناها لها، وتحلق في الفلك الذي سمحنا لها بالتحليق بفضائه.
وموقف آخر، لم يكن وقعه أقل من سابقه، ولاأبعد أثراً، لكنه يتخذ الصبغة الرسمية، ويحمل بعداً آخر في مجتمع يرتاب من كل خطوة يخطوها أصحاب التغيير والتطوير، إذ هو يتصل بالمقررات الدراسية في الصفوف الأولية ( للبنين) التي عهد إلى المرأة - في خطوة غير مسبوقة - هذا العام تأليفها وتطويرها، وتنقيحها وتهذيبها على صورة لم يألفها كثيرٌ منا، فشعر البعض وكأن البساط سحب من الرجل في أكثرمن موقف وصعيد، ويأس المسؤولون من قدراته ومواهبه ، حين أناطوا بغيره، وأوكلوا له شيئاً من مهامه وجزءاً من واجباته وصلاحياته، وكأن ذلك جزء لايتجزأ من القوامة.
وفي كلا الموقفين كنت بحاجةإلى إقناع نفسي قبل إقناع الغير، والتخلص من عقدة التمييز بين الجنسين التي ورثناها، وتأصلت بنا، وهي العقدة التي كرستها الأعراف، ووطنتها في نفوسنا التقاليد، ووجدت نفسي أنني بحاجة - قبل أن تتولى المرأة القيادة والتدريب إلى استحضار - وفي أكثر من مقال - صورة المرأة ومواقفها وأدوارها في التاريخ العربي والإسلامي، والحضارة الإنسانية والعالمية، معلمة ومربية، وناصحة، وذات رأي ، وخبيرة، وحكيمة.
صورة المرأة يوم أن كان للرجل صولته و! جو! لته على مسرح الأحداث، حينذاك لم يلتفت إلا لما هو أجل وأسمى من الأدوار ، لأنه كان يشعر أنه في سباق شريف مع المرأة، وتنافس قوي في مجالات الإسهام، اللهم إلا ماكان من خصائصه وشؤونه من سائر الأعمال، والتي تقف قدرات المرأة بحكم طبيعتها - عاجزة عن خوض معتركها.
من لطائف الشعر:
ولا عجباً أن النساء ترجّلت
ولكنّ تأنيث الرجال عجيب
|
|