أول ما طحت في قراءة الجرائد كنت طالباً في المرحلة المتوسطة، لا أتذكر بالضبط من طيحني فيها، أو على الأقل من أرشدني إلى قيمتها. فبيتنا لم يكن
يعرف القراءة والكتابة. من الصعب ملاحقة منعطفات تغير الوعي، ما أتذكره بوضوح هو ان أحد جيراننا كان يتابع مجلة اليمامة، وقد حصلت على نسخ كثيرة منها مكومة في فتحة إحدى نوافذ البيت الذي رحلوا عنه، مجموعة إصدار سنة كاملة، كنت أظن أنني قد حصلت على ثروة لا تقدر بثمن، لم أكن أميز بين الجرائد والكتب، كانا متساويين، حسب ظني القديم، في إنتاج العلم والمعرفة والثقافة الرفيعة، سررت بالثروة أيما سرور، وحملتها إلى بيتنا على دفعتين. كان الله في عوني. فقد قررت أن أقرأها كلها.
لم أكن أعرف ان الجرائد أو المجلة مربوطة بالزمان. لكل يوم جريدته، وتنتهي صلاحيتها. ضيعت يوماً كاملاً أنظمها وأصنفها حسب قدرتي على فهم المواضيع، فالفن مع الفن والأدب مع الأدب والأخبار مع الأخبار. دون أدنى احترام لتاريخ الصدور، أقرأ العناوين البارزة وأتفحص المواضيع. كان معظمها أشبه بالطلاسم. لا صلة لها بالعلوم التي أرسيت في دماغي. كان هذا الاكتشاف كافياً لأن أتخلَّى عن ميكي وسمير والعم بطوط، وبقية مجلات الأطفال التي تأتي في مجلدات وأنغمس في عالم بلا ألوان، حروف متراصة على صفحة كبيرة كاملة لا توفر سوى صورة لكاتب المقال معلقة في أحد أركان الصفحة لا تشجع شكلاً ومضموناً على التأمل فيها. لم تعد الصورة سيدة الموقف. أذن عالم الصورة الملونة بالرحيل من حياتي الثقافية. كان لدي غرفة خاصة وسرير، هل تصدق ذلك؟ ليس لدي الوقت الآن أن أشرح لك كيف حدث هذا. أخذت أتناول المجلة وأستلقي على السرير وأنطلق في القراءة لا ألوي على شيء. كنت متعوداً على قراءة الكتب «المدرسية والقصص» ومجلدات ميكي وسمير على السرير لسهولة الإمساك بها وتقليبها. ولكن مجلة اليمامة سببت لي مشكلة. علي أن أرفع يدي على مداها إذا أردت ان أقرأها وأنا على السرير. كانت اليمامة تأتي في صورة جريدة من الحجم الصغير. لم أخبر أحداً بموقفي من شكل الجريدة. كرهت شكلها. لماذا تطبع على ورق كبير وقابل للتبعثر؟ لماذا لا تطبع على ورق بصورة كتاب وفي أسوء الأحوال في صورة مجلة احتفظت بهذا الرأي لنفسي لكيلا اتهم بالجهل.
حتى الآن وأنا غير راضٍ عن شكل الجريدة. لماذا لا تطبع في صورة مجلة. لا يستفيد من شكل الجرائد الحالي سوى العزوبية. حيث تنتهي إلى سفرة.
عندما بدأت القراءة الفعلية بدا ان الأمر فيه سر عجيب. فالجمل في الجريدة غير متضافرة. ما أن تبدأ الجملة حتى تنتهي لتبدأ جملة جديدة وتنتهي بالسرعة نفسها.
لا رابط موضوعياً بين الجملة والتي تليها. وأحياناً ألاحظ ان الجملة تتوقف بحرف جر أو تبدأ بحرف جر. كما لم أفهم لماذا تبعد كل جملة عن الأخرى حوالي سم. مر أسبوع لم أفهم شيئاً أقدر أن أتباهى به. فأحسست بالخجل من ذكائي. كانت مجلدات ميكي وسمير تجوس تحت سريري تطالبني بالعودة مرة أخرى إلى الثقافة الملوّنة. ولكني كنت حينها قد تزودت بكثير من الأمثال التي تربط العلم بالتعب والسهر والجثو على الركب ليس بينها التسدح والتبطح على السرير. فانتقلت من القراءة على السرير إلى القراءة على الأرض جثوا على الركب كما أرادوا. ولكن حال الغباء بقيت على حالها. كدت أيأس من قراءة الجرائد لولا بصيص أمل. فأسماء الكتاب ناصر ومحمد وعبدالله. صحيح ان الكلام كبير وقلايع لكن هذا ابن فلان وهذا ابن فلان الآخر، لا يمكن ان أتصور أن يكتبوا شيئاً لا أستطيع فهمه. إذا هناك شروط على توفيرها حتى أكون مثقفاً.
البقية غداً الأحد.
فاكس: 4702164
|