لا ريب أن تقدم الأمم وازدهارها لا يقاس بعمرها واتساع رقعتها، وإنما يقاس بحضارتها وأمجادها الغابرة والحاضرة وقدرتها على استشراف مستقبل أجيالها والتخطيط له، وبناء أسسها على بينة وهدى يستمد جذوره من تشريع قويم وأعراف حميدة.
ولذلك فليس للأمم أن تفتخر أو أن تتطاول في الحضارة ما لم يكن هناك أساس متين تقوم عليه، وهو هوية المنشأ التي هي الأصل وهي المنار.
وللحفاظ على كل ما يمت بصلة إلى هويتها الأم، فقد سعت كل دول العالم إلى جمع معارفها الثقافية والاجتماعية والتأريخية بشتى الوسائل، كجمع مآثر من سبقوا من الخلق، من كتب ومخطوطات وآثار ونقوش سجلت جميعها تأريخ الإنسان أنى عاش، كما هو المثال في الحضارات القديمة.
وجميع المشاريع التي تهتم بتراث وثقافة الأمم، هي مشاريع ذات منجز يفتخر به وتلقى الرعاية والاهتمام الكاملين من قبل الحكومات وشتى القطاعات التي تساهم بشكل فاعل في إنجاح مثل تلك المشاريع التي تقام على شكل مراكز ودوائر متخصصة بالتراث والثقافة أو البحوث أو عن طريق المكتبات العامة والخاصة.
والمملكة العربية السعودية منذ نشأتها قد عنيت بأهم وسائل بناء الإنسان وهي وسيلة التعليم التي صارت معلماً نهضوياً بارزاً فيها، وقد ضم التعليم بمعناه الشامل كامل المفاهيم التربوية والتثقيفية ومنها دراسة تأريخ وهوية الأمتين العربية والإسلامية، وحضارتها على امتداد تاريخها العريق.
ولقراءة تلك الحضارة المتميزة كان لازماً على هذه البلاد أن تسارع ببناء المراكز والدور والمكتبات القادرة على توفير المعلومات بأحدث وسائل الاتصالات، وهذا ما قامت به فعلاً، فقد أنشأت المكتبات العامة وافتتحت المتاحف في أغلب مدن المملكة، كما أوجدت المراكز المتخصصة التي تخدم الدارسين والباحثين في شتى المجالات كمؤسسة الملك فيصل الخيرية، ومكتبة الملك عبدالعزيز العامة، ودارة الملك عبدالعزيز، ومكتبة الملك فهد الوطنية، فكل هذه الدور الثقافية والعلمية ذات رسالة تخدم في المقام الأول هوية الأمة العربية والإسلامية والحفاظ على تراثها ومآثرها فضلاً عن الرسالة العلمية. لقد تشرفت مؤخراً بزيارة مركز البابطين الخيري للتراث والثقافة، لأجده منبراً جديداً وواجهة حضارية للبلاد تحافظ على هويتها الإسلامية والعربية، إذ يعنى هذا المركز بالتراث العربي والإسلامي والحفاظ عليه، وإنشاء المكاتب العامة، والمحافظة على الوثائق التأريخية وآلاف المخطوطات من مختلف الفنون ومختلف البلدان العربية، والقيام بالدراسات والأبحاث المتعلقة بأنشطة المركز، كما يهتم المركز بتطوير وتنمية الموارد البشرية من خلال الاهتمام بثقافة المرأة والطفل وبقية المجتمع بشكل عام.
وبالوقوف على أهداف هذا المركز وخططه المستقبلية لتحقيق تلك الأهداف، لنلمس حقاً صدق رسالته نحو رفع المستوى المعرفي والثقافي لدى أفراد المجتمع من خلال ما يقدم من معلومات ودراسات وأبحاث. كما أننا نشيد بهذه الفكرة الرائدة التي تعتمد على أشخاص أفنوا حياتهم من أجل خدمة العلم والعلماء، وساهموا بكل ما يملكون، وما هذه الصورة إلا تجسيد حقيقي لدور كل مهتم بتراث الجزيرة العربية وحضارة الأمتين العربية والإسلامية. وإنني لأجدها فرصة سانحة، لأدعو القطاع الخاص إلى دعم مثل هذه المراكز والدور التي تقدم خدمات لا حصر لها في سبيل نشر العلوم والمعرفة، ومنها توفير المعلومات الحاسوبية للبحث العلمي وتطوير حركته وتشجيع النهضة العلمية والعمل على كل ما من شأنه تقدم ونماء المجتمع.
وفي آخر هذا المقال لا يسعنا إلا أن نشكر القائمين على مثل هذه المراكز المواكبة للتنمية في شتى مجالاتها دون التخلي عن حضارة وتراث الأمة.
وختاماً أتوجه بموفور الشكر والتقدير لعائلة البابطين على تلك الإضافة الفكرية والثقافية المتميزة والمتمثلة بهذا الصرح الخيري الثقافي، الشكر للشيخ عبداللطيف البابطين على مبادرته بتخليد اسم والده المرحوم سعود البابطين من خلال إنشاء هذا المركز العلم الذي حمل اسمه واستفاد منه الكثير، والتقدير موصول للأخ الكريم الأستاذ عبدالرحمن البابطين المشرف العام على المركز والذي تتضح جهوده ولمساته في كافة جوانب المركز.
|