لنفترض أننا نعيش قبل خمسين عاماً مضت، فلم يكن لدينا -طبعاً- محطات إذاعة أو تلفزة، بل إن أقصى ما يمكن ان نمتلكه هو صحيفة مكونة من أربع أو ثماني صفحات، نتناول هذه الصحيفة ونقرأها من ألفها إلى يائها ومن افتتاحيتها إلى رسائل قرائها. وبعد هذا الجهد الفكري نجد أنفسنا قد اكتفينا بهذه الصحيفة فهي وسيلة ربطتنا بواقعنا المحلي وقربتنا من العالم الخارجي. وبعد قراءتنا نكون قد أشبعنا نهمنا الفكري والفضولي ولا نرغب في أي زيادة تذكر. ثم نخلو إلى أنفسنا أو نتحادث مع أصدقائنا أو أقاربنا ونتجاذب الأحاديث ونناقش بعض ما دار من أحداث وموضوعات وهموم ومشكلات على مستوى العالم، ونكون قد وضعنا صورة شاملة للمواقف والأحداث، على الأقل في أذهاننا ومخيلاتنا.
وإذا قفزنا زمنياً إلى اللحظة التي نعيشها الآن وفي المكان الذي نكون فيه في عالمنا العربي، نكون قد انتقلنا إلى مستوى مختلف تماماً في كل الجوانب الحياتية والفكرية.
ونكون قد وصلنا إلى درجة فائقة في التعقيد تتجاوز كل الممكن وتعيشنا في متاهات الأفق المتناقض. فها أنت قد تقرأ اليوم عشر صحف محلية وخمس أخرى بلغة انجليزية وثلاث مجلات اسبوعية، وخمس صحف خليجية ومجلاتها الاسبوعية، وخمس عشرة صحيفة ومجلة عربية، إضافة إلى بعض الصحف الدولية وأربع مجلات عالمية. هذا إلى جانب ما تقذف به وكالات الأنباء العالمية والعربية والوطنية في أوعية الإعلام المختلفة. ثم ماذا عن قراءاتك المكتبية، فلربما قرأت خمسة كتب عربية وثلاثة أجنبية في الشهر الماضي مع باقي المجلات الشهرية والفصلية التي لاحقتك في عملك ووقت فراغك وحتى أحياناً وأنت تقود سيارتك. ولكن ليس هذا فقط، فأنت تقع تحت سلطة الأثير العربي والأجنبي، فهذه إذاعات خليجية وتلك عربية إضافة إلى الإذاعات الموجهة من لندن وأمريكا ومونتي كارلو وألمانيا وروسيا والصين وإسرائيل وغيرها كثير.. فهذه الإذاعات تلاحقك في المكتب أحياناً وفي المنزل وفي الطريق وفي أوقات راحتك ولحظات ترفيهك.
ثم ماذا عن التلفزيون؟ فكنت تحرص على مشاهدته عندما كان محطة واحدة، وزاد حرصك عندما باتت أمامك محطتان، وزاد نهمك عندما أتيحت لك مشاهدة خمس محطات، والآن ماذا عساك تفعل وأنت أمام عشرات بل المئات من المحطات العالمية؟ فهذه محلية وتلك عربية وثالثة غربية ورابعة شرقية وخامسة من أي مكان.
هذا مجرد ذكر للمصادر الإعلامية التي تواجهك، ولم نقل شيئا عن موضوعات هذه الوسائل الإعلامية ولا مضامينها، فهي مليئة بالأخبار والتعليقات والتفسيرات والتحليلات والمواجهات والمقابلات والندوات والحوارات والمسابقات والتمثيليات والمسرحيات والأغنيات والابتهالات والموسيقى والرياضات والتربويات والفكر والعلوم، كما أنها لم تترك مجالا إلا ودخلت فيه وأدخلتك أيضاً في متاهاته، فأنت مضطر إلى معرفة المطبخ والكتب وغرف النوم والحديقة والجامعة والطريق والملعب والقرية والمدينة والمنطقة والدولة والعالم والفضاء والنجوم والغابات والحيوانات والطيور وكل ما يخطر في فلك البث التلفزيوني المباشر. كل هذا ونحن لم نقل شيئاً عن اتجاه هذه البرامج، فهذه حميمة وتلك صديقة وغيرها قريبة ورابعة محايدة وخامسة موضوعية وسادسة خبيثة وسابعة خصوصية وثامنة عدوة وتاسعة قاتلة وعاشرة مميتة.. كما أن هذه يسارية وتلك تقدمية وغيرها رجعية ورابطة محافظة وخامسة شيوعية وسادسة ماوية وسابعة لينينية - ربما- وثامنة امبريالية وتاسعة رأسمالية وعاشرة راديكالية. وماذا عن ديانة هذه القنوات، فهذه مسيحية كاثولوكية وتلك بروتستانتية وثالثة يهودية ورابعة سنية وخامسة شيعية وسادسة علمانية وسابعة لا دينية وثامنة بوذية وتاسعة هندوسية وعاشرة دينية متطرفة. كما أننا لم نقل شيئاً عن درجة محافظة هذه القنوات.. فهذه تقليدية وأخرى محافظة وغيرها تحررية وليبرالية وإباحية وفوضوية الخ.. وأخيراً فأنت أمام مواجهة ضخمة من هذا الكم الهائل والتنوع الصاخب في المصدر والموضوع والأشخاص والاتجاهات والأديان والمواقف والمكان والزمان والهموم والمشاكل والموضوعات. وتبقى أنت في وضع اهتمام من كل هذه القنوات الفضائية بلا استثناء، أو كما يبدو لك في كونك محور اهتمام كل هذا الكم الهائل من القنوات والوسائل الإعلامية، ولكن الحقيقة في أنك تبقى أيضاً -في نهاية الأمر- بلا أهمية فلست إلا واحداً من مئات الملايين من البشر الذين يقعون رهينة لهذا الجهاز البسيط ويتمركزون أمام هذه الشاشة دون ان يكون لهم حول ولا قوة ولا تأثير ولا فاعلية.
تُرى ماذا تستطيع أن تكتسبه من معارف أو أخبار أو اتجاهات أو سلوكيات أو مواقف أو قيم من خلال تعرضك لهذه القنوات الفضائية؟ وهل تستطيع أن تخلق من هذا الكم الهائل معاني صادقة أو أحاسيس مستقيمة تساعدك على إيجاد صور واضحة وأطر شاملة ووحدة كاملة للموضوع.. لا نعتقد ذلك، فأنت تتوه في غابات الفضاء المباشر.. وعندما يحاول أحدنا أن يوظف هذه التقنيات لصالحه لخدمة موضوع معين. نجده يبدأ بجزء من موضوع هنا في هذه القناة، ويستكمل جزءاً آخر في قناة أخرى وجزئية ثالثة في قناة أخرى، وجزئيات رابعة وخامسة وسادسة في قنوات أخرى.. وهلم جرا.. وأنت في جهادك في لملمة الموضوع وانتشال جزئياته المتناثرة في مختلف القنوات، تتداخل معك موضوعات متشابهة. وتتحول من مشاهدة موضوع معين إلى موضوع مشابه إلى موضوع قريب إلى موضوع بعيد إلى موضوع مختلف تماماً.. وخلال كل عمليات البحث «الريموتية» ربما يسترعي انتباهك موضوع آخر لك اهتمام شخصي به فتنسى الموضوع الأساسي.. وهكذا تخرج من قناة إلى قناة أخرى ومن موضوع إلى موضوع آخر.. ومن برنامج إلى برنامج آخر ومن ساعة إلى أخرى ومن ليل إلى نهار.. ومن أخبار إلى مسرحية ومن ثقافة إلى فن، ومن موسيقى إلى كوميديا، ومن سياسة إلى مطبخ.. ومن الخليج إلى المغرب ومن تركيا إلى الأرجنتين ومن روسيا إلى نيجيريا ومن اليابان إلى السودان ومن القدس إلى الفاتيكان ومن هنا إلى هناك ومن هناك إلى هنا مرة أخرى.. حتى تفقد الإحساس بالمكان وتختلط عليك الجغرافية ويتداخل معك التاريخ وتصبح في ذبذبات فضائية عبر المكان والزمان قد تفقد من خلالها ذاتيتك وهويتك وخصوصيتك وزمانك واسمك وعنوانك ولغتك وقيمك وثقافتك.. ربما تفقد بعض هذه وقد تفقدك هي إلى الأبد.
ولاشك ان الخطاب العربي في ظل هذه الظروف التي يتجزأ فيها المتلقي العربي الواحد إلى مئات بل إلى آلاف الأشخاص في نفس الوقت، سيكون هو ذلك الخطاب الذي يعكس هذه النوعية من المشاهدة والتلقي.. وهو بهذا يكون في أفضل أحواله خطاباً ممزقاً ومهترئاً وغير قابل للانطواء داخل العقل ولا السكون في ظلال المنطلق وغير فاعل في الطرح والاقناع والمناقشة والمناظرة والجدليات وغيرها من تقنيات واستراتيجيات الكلام والخطاب، إن الخطاب الذي يواجهه المتلقي العربي هو خطاب متعدد ومنقسم في أساسه نظراً للبنايات العربية الاجتماعية والسياسية المتناقضة، ويزداد هذا الانقسام وهذا التمزق بفعل معايشتنا الحالية مع أعداد هائلة من القنوات الفضائية التي تعتدي وتهاجم وتغتال بعضها البعض.. ولهذا يأتي الخطاب العربي غير قادر على مواجهة انقسام المتلقي وتعددية رؤيته وانسحابية فكره وتناقضية ممارساته، وهو عاجز عن مواكبة الأحداث وتطلعات المشاهدة وطموحات الوسيلة وتقنيات الفضاء الجديدة.. هذا هو المتلقي العربي وهذا هو الخطاب العربي في ظل النظام الفضائي الجديد.
(*) رئيس مجلس إدارة الجمعية السعودية للإعلام والاتصال
أستاذ الإعلام المساعد بجامعة الملك سعود
|